التفاؤل في سورة الضحى
الدنيا دار محن ومصائب وشدائد، يكاد لا يسلم من ذلك أحد، سواء على المستوى الفردي أم المستوى الجماعي، وفي هذا الزمان ابتلي المسلمون بمصائب شتى ورزايا كثيرة، كما قال الشاعر:
أنى نظرت إلى الإسلام في بلد وجدته كالطير مقصوصا جناحاه
وأخطر ما في المصيبة هو السكون إليها والاستسلام لها، وهما النتيجة الحتمية لليأس الذي يوصل للانتحار النفسي الذي يفوق بخطره الانتحار الجسدي، لذا تضافرت النصوص الشرعية والوقائع العملية من السيرة النبوية التي تنبذ اليأس وتدعوا للتفاؤل والأمل بالقادم، مما يكفل إخراج من وقعت عليه المصيبة من حالة الإحباط السلبية ونقله إلى دائرة التفاؤل الإيجابية، لا سيما عندما يعلم أن أفضل البشر قد ابتلوا بالمصائب، فقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل([1]).
ومن هذه النصوص سورة الضحى، حيث القرآن شفاء ورحمة، أنزله الله ليثبت به رسوله والمؤمنين، وتتضح المواساة والدعوة للتفاؤل في سورة الضحى من خلال مايلي:
1. من حيث سبب النزول: فسبب نزول السورة -كما ذكر أكثر المفسرين- أنها نزلت بعد فترة انقطاع للوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعيير المشركين له بذلك، ومعلوم أن من أعظم المصائب هي مصيبة الدين والمتمثلة بانقطاع الوحي، فنزلت السورة مشحونة بالدعوة للتفاؤل، ولبيان زيف ادعاء المشركين، ومواساة النبي عليه السلام وتثبيته.
2. من حيث وقت نزولها: حيث نزلت في بداية الدعوة، حيث الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يقاسون أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي من المشركين، فنزلت هذه السورة العظيمة تبشرهم بالقادم وتبعث في نفوسهم التفاؤل والأمل.
3. من حيث الترتيب في وقت النزول([2]): فسورة الضحى هي السورة الحادية عشرة من حيث النزول -كما أن عدد آياتها إحدى عشرة آية- تأتي بعد سورة الفجر وقبل سورة الشرح، والفجر والضحى والشرح ألفاظ تزخر بكل معاني التفاؤل والسرور والأمل، وتبعث في النفس الاستبشار بما هو قادم، وكذلك فإن الضحى يأتي بعد الفجر في الترتيب الزمني حيث ينبثق الضياء في الفجر ويتضح ويسطع ويشتد وقت الضحى.
4. ترتيب السورة في المصحف: حيث السورة السابقة لسورة الضحى في المصحف هي سورة الليل والتي ختمت بقوله تعالى: (ولسوف يرضى)، وهي دعوة للتفاؤل والأمل بما هو آت، كذلك جاء في سورة الضحى قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)، والموعودون بذلك -والحمد لله- هم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، أما السورة التي تليها فهي سورة الشرح الذي يحمل معنى الفرج وزوال الهم.
5. بعد سورة الليل جاءت سورة الضحى، حيث الضحى -وهو أشد النهار ضياءً- يرمز للفرج وزوال الهم، بينما الليل يرمز للضيق والهم والعسر، قال امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصب وما الإصباح منك بأمثل
فبعد العسر يأتي اليسر كما أن الفرج يأتي بعد الشدة.
6. قدمت السورة القسم بالضحى -وهو أشد النهار ضياءً- حيث يرمز للفرج وزوال الهم، على القسم بالليل الذي يرمز للضيق والهم والعسر، رغم أن الفرج يأتي بعد الهم، وذلك انسجاماً مع روح التفاؤل التي تبعثها هذه السورة في النفس، فيبقى الإنسان متفائلاً، بينما الترتيب القرآني للسور جاء وفق المعتاد، فالضحى بعد الليل كما أن اليسر يأتي بعد العسر.
7. خالف بعض من تكلم على السورة حيث رأى أن القسم بالضحى باعتباره ظرفاً للحرارة والعناء والتعب، وعطف عليه القسم بالليل باعتباره ظرفاً للسكون والراحة والمسامرة، ليكون القسم بياناً للجو العام للسورة التي حملت بشارة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستقبل أمره خير مما استدبر، مثل من ينتقل من العناء والكد في الضحى إلى الدعة والراحة في الليل([3]).
8. وصف الليل هنا بأنه سجى أي طال وامتد، أي كناية عن اشتداد الهم والغم، لكن الفرج سيأتي حتما كما يأتي النهار بعد الليل، وخلال ذلك فإن الله تعالى لا يتخلى عن عبده المؤمن قال تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)، وليكن متذكرا قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى) فيبقى متفائلا بأن القادم أفضل، فلا يسقط في براثن اليأس والقنوط المفضيان للموت البطيء والتردي في دركات الضياع.
9. إضافة اللام للنبي صلى الله عليه وسلم يفيد الاختصاص في قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)، دلالة على أن كل ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر دينه وأمته لابد أن يصير إلى كل ما هو خير، يقول ابن عاشور رحمه الله: "واللام في قوله: لك لام الاختصاص، أي خير مختص بك، وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام، وأن يمكن أمته من الخيرات التي يؤملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم"([4]).
10. في قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) جمعت الآية بين حرفي التأكيد والتأخير، وذلك حتى يكون الإنسان على يقين بأن فرج الله لابد أن يأتي وإن تأخر([5]).
11. في قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ورد أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله تعالى، كيف لا وهي في سورة تشع رجاءً وتفاؤلاً وأملاً، فعن حرب بن سريج البزار، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، جعلت فداك، أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق، أحق هي؟ قال: شفاعة ماذا؟ قال: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: حق والله، إي والله، حدثني عمي محمد بن علي ابن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشفع لأمتي، حتى يناديني ربي، فيقول: أرضيت يا محمد؟، فأقول: رب رضيت"، ثم أقبل علي، فقال: إنكم تقولون، معشر أهل العراق: إن أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى عز وجل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53] قرأ إلى قوله {جميعا} [البقرة: 29] قلت: إنا لنقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول: وإن أرجى آية في كتاب الله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]([6]).
12. حذفت كاف الخطاب في قوله تعالى: (وما قلى)؛ لأن القلى فيه البغض والترك والجفاء فلا يليق إضافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الوداع فليس فيه ذلك.
13. يمتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بنعمه السابغة عليه، وليكون قدوة لكل إنسان مبتلى بأن يستذكر سابق لطف الله به في مراحل حياته وجميع أحواله من يتم وفقر وضياع، حيث ينتقل من اليتم إلى الإيواء، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الفقر إلى الغنى، فكما لطف الله بك في البداية لن يتخلى عنك في النهاية.
14. لم يأت لفظ الجلالة في هذه السورة إلا بلفظ "رب" بما يحمله من دلالة على اللطف والرحمة والمحبة والعناية التي تكون في التربية التي تشع بها هذه السورة، فتملأ النفس غبطة وسروراً وتفاؤلاً.
15. التكبير عند بداية السور كما في بعض القراءات يبدأ من عند سورة الضحى، والتكبير دلالة الفرح والغبطة والسرور بما حملته هذه السورة من بشارات بالمستقبل يجعل النفس تمتلئ تفاؤلاً وأملاً.
وفي الختام فإن هذه المعاني التي وقفت عليها في سورة الضحى تشير إلى عظيم مكانة هذه السورة، والتي تشع أملاً وتفاؤلاً، فلا يبقى لليأس والجزع مكان، فما إن يتدبرها المهموم أو صاحب المصيبة حتى تشحنه بكل المعاني الإيجابية بزرع الأمل في نفسه بأن القادم أفضل.
كما قال الطغرائي:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
الهوامش
([1]) صحيح البخاري، 7 / 115.
([2]) التفسير البياني للقرآن الكريم، 1/ 79.
([3]) أبو عبد المعز، تفسير بياني لسورة الضحى، بحث منشور بتاريخ 4/ 12/ 1433هـ/ 19/ 10/ 2012م، الملتقى العلمي للتفسير وعلوم القرآن، ص2.
وقد احتجوا لهذا الرأي بأن المقصود بالضحى والليل هنا الظرفية وليس الزمنية، حيث الضحى فيه الكد والتعب وطلب المعاش، والليل فيه الهدوء والسكون والراحة؛ لأن في حمل المقصد من الليل والضحى على الزمنية في تجديف عكس المعنى البلاغي للسورة في الانتقال من الأسوأ للأحسن، حيث الضحى فيه الوضوح والضياء والليل فيه الظلام والهم.
قلت: ينتفي هذا الإشكال إذا علمنا أن تقديم الضحى بالذكر بما يحمله من معنى حسن هو منسجم مع روح التفاؤل التي تبثها هذه الآية في النفس وذلك بالتنويه بذكر الفرج قبل الشدة ليبقى الإنسان متفائلا بما هو أحسن، كقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).
([4]) التحرير والتنوير، 30/ 397.
([5]) تفسير النسفي، 3/ 654.
([6]) التوحيد لابن خزيمة، 2/ 673.
.