العين حق

الخطبة الأولى

الحمد لله ربِّ العالمين والعاقبة للمتقين، ولا أمل ولا رجاء إلا في الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وإله الأولين والآخرين، عزَّ جاهك يا ألله وتقدست أسماؤك يا ألله، في السماء ملكك وفي الأرض سلطانك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وعذابك، أنت ربنا وإلهنا وخالقنا سبحانك، ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد:

تأمَّل في نبات الأرض وانظُر 

إلى آثار ما صنع المليك 

عيون من لُجين شاخصات 

بأحداق هي الذهب السبيك 

على كتب الزَّبرجد شاهدات 

بأن الله ليس له شريك 

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأحسَن كلَّ الإحسان، فصلوات ربي وسلامه عليه دائمًا سرمديًّا أبدًا، عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون.

إذا ملوك الورى صفُّوا موائدهم 

على شهي من الأكلات والأدم 

صفقت مائدة للروح مَطعمها 

هدى من الوحي أو عذاب من الكلم 

كفاك عن كل قصر شاهق عمد 

بيت من الطين أو كهف من العلم 

تُبنى الفضائل أبراجًا مشيدة 

نصب الخيام التي من أروع الخيم 

 

أُوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنه ما فاز إلا أهل التقى وما خسر إلا المبطلون المجانبون لأمر الله ورسوله، فلذا يقول ربنا: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، فإن خير ما يتواصى به المؤمنون أن يوصي بعضهم بعضًا بتقوى الله، تقوى الله - سبحانه وتعالى - في السر والعلانية.

 

فيا أيها المسلمون، لقاؤنا في هذه الخطبة عن داء من الأدواء ومرض من الأمراض، إنه داء الحسد مجمع الآفات، ومستنقع الشرور والفساد والرذائل، ذلكم الأمر الذي كان بعض صفات أمة من أحقر الأمم، وصفها الله - سبحانه وتعالى - به، فقال جل وعلا: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54] وقال: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًّا مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم ﴾ [البقرة: 109].

 

اتسمت اليهود بهذه الصفة، وهي صفة ذميمة داء الحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم أن يقتل أخاه إنه الحسد الذي عناه الله بقوله: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 27 - 30].

 

هذا الداء جعل العار والإثم لاحقًا بذلك الابن إلى يوم القيامة، فما قتل قتيل ظلمًا إلا كان من الآثام على ابن آدم الأول؛ لأنه أول من سن القتل، كما أفصح بذلك سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وهذا الداء هو الذي حمل القرشيين من المشركين على رفض الرسالة العالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فحسدوه؛ يقول جل وعلا حاكيًا عن أولئك: ﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]؛ ينزل على رجل له الإمكانيات والجاه والمال والمنصب، أما محمد هو من الفقراء، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].

 

والحسد بمعنى: تمني زوال النعمة، فمن تمنى إزالة نعمة الغير فهو حاسد وآثم؛ لأنه غير راض بحكم الله، فهو يتسخط على أقدار الله ويعترض على الله، وكأن الله ظلم العباد وهو عدل ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وقال جل وعلا: ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، فالحسد محرم والحاسد آثم؛ لأنه محارب لله.

يا حاسدًا لي على نعمتي 

أتدري على من أسأت الأدب 

أسأت على الله في حكمه 

لأنك لم ترتضَ ما وهب 

فأخزاك ربي بأن زادني 

وسد عليك وجوه الطلب 

 

فكان الحاسد معترضًا على أمر الله، ومستدركًا على الله في فضله وفي خيره، وهذه الصفة الذميمة ربما - عياذًا بالله - تسوِّل لصاحبها أن يشوِّه ذلك المحسود بحق أو بباطل من أجل تنقُّصه، وإن كان أرفع منه منزلة، وهذه سنة الله في خلقه.

حسدوا الفتى إن لم ينالوا مثله 

فالناس أعداء له وخصوم 

كضرائر الحسناء قُلن لوجهها 

حسدًا وبغيًا إنه لذميم 

 

فيقوم بالتشويه وربما جرَّه الحسد إلى أن يقتل والعياذ بالله، ويتلطخ بالدماء الطاهرة، والله سبحانه يحرِّم ذلك في كتابه الكريم، ورتَّب على القاتل خمس عقوبات، وربما جره هذا الأمر إلى أن يسحره أو يسلِّط عليه السحرة، وهذا كله من الآثام ومن كبائر الذنوب أن يُعين ساحرًا من أجل إزالة أخيه المسلم اعتراضًا على الله، وبعض الناس ربما عدل إلى الأخف في نظره، وهو عظيم عند رب الأرض والسماء، فيستخدم العين لإصابة حق أخيه المسلم، فما أن يرى شيئًا إلا استعظمه، ويطلق عبارات ربما من غير مبالاة فيؤثر على صاحبه داءً عن طريق العين، والعين حق كما في الحديث، عبارة يطلقها فيدمر صاحبه والنفس أمارة بالسوء، ولا يحق لمسلم أن ينكر أمر العين، فهي تصيب ولا محالة إلا أن يشاء الله عدم الإصابة، فإن كل شيء بالقضاء والقدر.

 

وكل شيء بالقضاء والقدر وكل مقدور فما منه مَفر.

 

وهناك آيات تثبت أحقية إصابة العين، وأحاديث من السنة المطهرة؛ حيث يقول الله على لسان نبيه يعقوب وقد وجَّه أولاده أحد عشر ابنًا، وكانوا من أجمل الناس، وعندهم من الخيول والزينة، وجَّههم من بلده من أجل أن يدخلوا على يوسف ديار مصر، قال الله: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ [يوسف: 67].

 

وكان لمصر أربعة أسوار كل سور فيه أربعة أبواب، فيقول: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ [يوسف: 67].

 

﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68].

 

ذكر ابن عباس وتلميذه عكرمة والضحاك بن مزاحم وكذلك القرطبي في تفسيره - إجماع أهل التفسير أن يعقوب خشي على أولاده من العين، وهكذا يقول ربنا: ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].

 

وهذا أمر مجمع عليه بين الناس، بل كان يستخدمه الناس قبل الإسلام، وهو متعارف عليه عند كل الأمم والملل والنحل، ما يتعلق بالإصابة بالعين، وهي كبيرة من كبائر الذنوب؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تهاجروا ولا تدابروا).

 

ويقول ابن القيم: ذكر الفقهاء أنه إذا تبين عائن من الناس، وجب على إمام المسلمين حبسه حتى لا يؤذي المسلمين، لا ينزل الضرر بالمسلمين، ويقرِّر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (العين حق ولو شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)، بمعنى إذا طلب منكم الاغتسال فلابد أن تغتسلوا، من أجل أن يغسل به ذلك المصاب، ولا غضاضة في ذلك، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تُدخل الرجل القبر، والجمل القدر)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقًا ثم يتردى منه).

 

أحاديث كثيرة في هذا الباب مفادها أحقية ذلك، وهذا أمر لا ينكره أحد من المسلمين والإصابة بالعين من أكبر الذنوب والآثام؛ لذا كان لزامًا على المسلم إذا رأى ما يعجبه أن يتقي الله - سبحانه وتعالى - في نعمة أخيه المسلم، فإذا رأيت على صاحبك جاهًا أو منصبًا أو مالًا أو جمالًا أو أولادًا زينة من زينة الدنيا، فقل: (ما شاء الله اللهم زِدْ وبارك)، أتدري إذا قلت ذلك ما هو الجزاء، لك مثله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل)، لكن إذا حسدته وقعت في الإثم وأصبت بالعين، وكان مسخوطًا عليك عند الله، ولا تصاب بنعمة أبدًا؛ لأن الله يَمقتك ويمقت فعلك، ولقد تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل أصاب أخاه بالعين، تغيَّظ الرسول أيَّما تغيُّظ - أي غضب غضبًا كبيرًا - روى الإمام أحمد في المسند والنسائي في سننه من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الصحابي الجليل، اسمعوا لهذا الابن وهو يروي قصته لأبيه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اغتسل أبي سهل بن حنيف رضي الله عنه بالخرار، وهي منطقة خارج المدينة، فنزع جبته أي ملابسه قال: وكان عليه جلد أبيض جميل، فقال عامر بن ربيعة لما رأى ذلك الجلد عبارة ما يظن منها السوء، وكم من عبارات يطلقها الناس اليوم، فقال عامر بن ربيعة: ولا جلد مخبأة رأيت كاليوم بياضًا، والمراد بالمخبأة - العذراء التي لم تتزوج - فإذا بسهل بن حنيف يركض برجله ويشهق، وتكاد روحه تخرج، يضطرب اضطرابا شديدًا، فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل تتهمون أحدًا، قالوا: سمعنا عامر بن ربيعة يقول: كذا وكذا، فأُتي بعامر، فقال صلى الله عليه وسلم: (علام يقتل أحدكم أخاه، هلا قلت بارك الله إذا رأيت ما يعجبك)، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، ثم اغتسل عامر بن ربيعة، وتوضأ وغسل مغابنه وداخلة إزاره، ثم صب على سهل بن حنيف، فقام نشيطًا وكأن لم يكن به من الأمر سوء.

 

عبارة يسيرة بل ربما ضرَّ الرجل نفسه بعبارة يقولها، أذكر رجلًا سمينًا ازدحمت رجلاه في باب من الأبواب، فقال عبارة يريد منها الإضحاك يقول لفخذيه: لا تزدحما فأصيبت فخذاه بالصنافير والدمامل والأمراض، عبارة يطلقها، ويمر رجل أمام مزرعة دجاج، فيتذكر الملبيين في جبل عرفات، فيقول: لبيك اللهم لبيك، فيموت الدجاج كله.

 

عبارة يسيره يطلقها ما يبالي بتلك العبارة، ورجل يمر من جانب رجل كبير السن لابس النعال والشراب، فيقول له: هكذا مالك تحفر بمشيتك، وكأنك هيلوكس تغرز في الأتربة، فإذا بالرجل يشعر بمثل الشوكة في رجله، ثم بعد ذلك ينتهي بعمليات وما شوكة وصلت إلى رجله، وإنما هي عين، وأذكر زميلًا كان في مركز صعدة في دماج ظل ستة أشهر مريضًا، وكان أخًا أجنبيًّا ليبيًّا، وكان جميل الخلقة، الله أعلم من أصابه بعين، فقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي: ما لفلان لم يشف؟ هيَّا لنتوضأ جميعًا فيتوضأ الشيخ ويتوضأ ستمائة طالب في المعهد، ثم اغتسل به ذلكم الطالب، فقام نشيطًا وكأن لم يكن به شيء.

 

فيا أيها المسلمون يجب أن نتقي الله في أعيننا، ونتقي الله - سبحانه وتعالى - في أنفسنا، ولا ينبغي لنا أن نستخدم ما يزيل العين إلا ما سيسمع بإذن الله في الخطبة الثانية، أسأل الله أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعنا وإياكم بالذكر الحكيم، هذا ما قلته لكم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فبعض المسلمين يتفننون في رد العين تفننا بعيدًا عن الشرع وعن رسول الإسلام وعن التعاليم الشرعية، فبعض المسلمين إذا أنعم الله عليه نعمة من بيت أو سيارة أو حيوانات، يعض حدائد على البيت، والآخر يضع نعالات من أجل أن ترد العين، وبعضهم يجعل بعض المساحيق كالحلتيت والبسباس والملح، يظن أن هذه ترد العين، وبعض المسلمين يقوم بعملية الرقى والتعاويذ والحروز والتمائم، من أجل رد العين، هذه كلها جاهلية نهى عنها الإسلام.

 

ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل رقية تخالف الشرع، فإذا كُتبت في هذه الرقى استعانةً بالجن، أو حروف أعجمية وما أشبه ذلك، حُرِّمت، بل لا يجوز كتابة القرآن وكتابة السنة، ثم يكون ذلك حرزًا، وإنما العلاج في ذلك ما علمنا رسول الله، فإنه ما ترك من خير إلا دلنا عليه، ولا شرًّا إلا حذرنا منه.

 

فمن قلد الآراء ضلَّ عن الهدى ومن قلد المعصوم في الدين يهتدي:

كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وأمهما فاطمة الزهراء، كان يعوذهم يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، فالرقية الشرعية هي: العلاج النافع في هذا كله، فالاعتصام بالله والالتجاء إلى الله.

يا من ألوذ به فيما أؤمله 

ومن أعوذ به مما أحاذره 

لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره 

ولا يهيضون عظمًا أنت جابره 

 

فالرجوع إلى الله والاحتماء به، احفَظ الله يحفظك، فإذا رجعت إلى الله كان العون، وإذا طلبت ذلك من غير الله، فإنما هو اعتداء وتردٍّ وهروب وآثام والعياذ بالله.

والمستجير بعمرو عند كربته   كالمستجير من الرمضاء بالنار.

 

الالتجاء إلى الله، وطلب فك الكربات من الله - سبحانه وتعالى - ولقد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم وركزت عليه العيون، فأصابوه بإذن من الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من ذلك بالإخلاص والفلق والناس، وتأمل سورة الفلق: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]؛ أي: أعتصم وأستجير به ﴿ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾.

 

فيكون صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى بالاستعاذة مع حضور القلب، مع الثقة بالله سبحانه، وأن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ثم بعد ذلك التحصينات الشرعية، أذكار النوم، والأكل، والتستر الدائم، فإن من الناس من يتستر عن الناس، لكنه لا يتستر عن الجن، وربما تكشف والجن يصيبونه والعياذ بالله؛ لذا يقول صلى الله عليه وسلم: (سترُ ما بين عورات بني آدم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا خلع ثوبه بسم الله)، فالأولى أن يكون العبد مستورًا، فإن كان لابد من خلع ملابسه، فلابد أن يقول (بسم الله)، حتى تكون وقاء وساترًا بين أعين الجن وبين عورة بني آدم، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث ابن عباس: (إذا أتى الرجل أهله فقال: بسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما شيء لم يصبه شيطان أبدًا)، وتأمل في مريم بنت عمران يوم أن قالت أمها: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]؛ قال سبحانه: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].

 

فلابد أن يكون الالتجاء إلى الله والاعتصام به والفرار إليه، فكم من رجل صار مجنونًا، وآخر مهسترًا، وأُسَرٍ فرِّقت، كم من امرأة طُلقت، وكم من بنت سحرت عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وعن طريق العيون التي سلطها الكثير من المسلمين على إخوانهم، على أنك لو قلت له: لِمَ لَمْ تُسحر الكفار؟ الكفار في مأمن من سحره وكيده وعينه، لكنه استطاع لإخوانه المؤمنين على أمر حقير، بل امرأة سُحرت من أجل أمر حقير، فسممت زوجها والعياذ بالله، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم كونوا على يقين أن نبيكم لم يمت إلا وذكر لكم علمًا في كل شيء؛ كما قال أبو ذر: (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر يطير بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علمًا)، ثم على العبد أن يكون قوي الصلة بالله واثقًا بالله متوكلًا على الله.

توكل على الرحمن في الأمر كله 

فما خاب حقًّا من عليه توكلا 

وكن واثقًا بالله واصبر لحكمه 

تَفُز بالذي ترجوه منه تفضُّلا 

 

فليكن اعتصامك بالله وإياك أن تلجأ إلى العرافيين والمشعوذين وإلى الكهنة، وإنما عليك الالتجاء إلى الله وتأمل قول الله: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].

 

فالالتجاء إلى غير الله إنما هي أمراض وأوباء ومشاكل واختلاس للأموال، ولكن عليكم الفرار إلى الله، فهو الذي بيده كل شيء وأزِمَّة الأمور بيده، وإذا ابتلاك بشيء فاصبر يا عبد الله، إن أصبت بمصيبة أو بنكبة، فاصبر عبد الله.

اصبر لكل مصيبة وتجلَّد 

واعلم بأن المرء غير مخلد 

فإذا أتتك مصيبة تسلو بها 

فاذكر مصابك بالنبي محمد 

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا دينًا إلا قضيته، اللهم أصلح عبادك المؤمنين، اللهم أصلح لنا الظاهر والباطن يا رب العالمين.

 

اللهم اقسِم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وعقولنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا.

 

.