خطبة حول الفاتحة

 

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه ولا نثق إلا بما في خزائنه.

وأغضُّ طرفي عن سواك فما أرَ 

في الكون غيرك من إله يُعبدُ 

يا من له عنتِ الوجوه بأسرها 

وله جميع الكائنات توحِّدُ 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب70 ـ 71].

 

وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، بلغها حق البلاغ وحق الأداء.

إذا ملوك الورى صفُّوا موائدهم 

على شهي الأكلات والأدم 

صففت مائدة للروح مَطعمها 

هدي من الوحي أو عذب من الكلم 

كفاك عن كل قصر شاهق عمد 

بيت من الطين أو كهف من العلم 

تُبنى الفضائل أبراجًا مشيدة 

نصب الخيام التي من أروع الخيم 

 

عباد الله أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنه ما فاز إلا أهل التقى.

لا فخر إلا فخر أهل التقى 

غدًا إذا ضمَّهم المحشر 

ليعلمنَّ الناس أن التقى 

والبر كانا خيرَ ما يُدَّخر 

 

عباد الله، آيات من القرآن الكريم يتلوها المسلم في يومه وليلته عدة مرات، ولكن المعتبرين والمتدبرين لها قليل، على أن الله جل وعلا يأمرنا بتدبر القرآن عمومًا، فيقول سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].

 

ومعنى (أم)؛ أي: بل على هذه القلوب أقفال من الرين، بسبب المعاصي والتعلق بالدنيا والغفلة عن ذكر الله، ما جعل هذه القلوب غير متدبرة لكلام الله الواحد القهار، هذه الآيات الكريمة يقول الله تعالى عنها: « قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾. قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾، قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».

 

هذه الآيات الكريمة هي التي أريد أن أتحدث عنها، ليفتح الله عليَّ من خزائنه ولست موفيًا بالمقام، فإن هذه الآيات المباركة هي في سورة من أعظم سور القرآن الكريم، وهي من سورة (الفاتحة) من أم القرآن من السورة التي يقول الله عز وجل عنها: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].

 

التي أنزلها الله سبحانه وتعالى من كنز تحت العرش على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أُجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي فقال: (ألم يقل الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، بمعنى أنه كان مطالبًا أن يخرج من الصلاة تلبيةً لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ما عنفه رسول الله فهو الرحيم الشفيق ذو الرحمة والرأفة لهذه الأمة، ثم قال: (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل: (لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن)، قال: ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيته), هذه هي السورة التي تقرؤونها يا عباد الله ركن من أركان الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وفي رواية: (بأم القرآن)، فالعبد المؤمن يقرأ هذه السورة المباركة من بدايتها ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ إلى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، ثم بعد ذلك يطلب من الله ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، هذا يطلبه العبد من ربه - سبحانه وتعالى - صباحًا ومساءً يهتف بهذا الدعاء يا رب ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، اهدنا الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك يبيِّن ويوضح هذا الصراط الذي يريده ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾.

 

يشترط على الله - سبحانه وتعالى - والله هو الذي علمه إياه، حتى إن علماء النحو واللغة العربية يعربون هذه الآية بعدها عطف بيان؛ لأن عطف البيان يخصص ويوضح متبوعه، بخلاف النعت فإنه لا يخصص ولا يوضح، فإذا قال العبد ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾، فهو يبيِّن هذا الصراط الذي يريده، إننا جميعًا عباد الله نهتف بهذا الكلام، لكن أعمالنا وأقوالنا وتعلقات قلوبنا، وهِممنا الكثيرة منصرفة عن هذا الذي نقوله، وربما كنا نقول: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، ثم نطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، ثم بعد ذلك نستثني أن يكون هذا هو صراط اليهود والنصارى؛ كما في آخر الآية ﴿ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾، وهم اليهود، ﴿ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ وهم النصارى، وهذا تفسير من رسول الله، وتفسيره مقدم على غيره إذا جاء سبيل الله بطل نهر معقل كما يقول الأدباء، فصراط الله رب العالمين تنوعت فيه عبارات المفسرين والأئمة المجتهدين، فبعضهم يقول: الإسلام، وبعضهم يقول: الدين كله وبعضهم يقول: الإيمان، وبعضهم يقول: صراط الله المستقيم هي طاعة الله وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكل هذه التفاسير متقاربة في المعنى وإن اختلفت أحرفها وألفاظها، إلا أن ابن قيم الجوزية يقول: صراط الله المستقيم: هو الطريق الواضح الذي رسمه الله لعباده لا اعوجاج فيه ولا انحناء؛ كما قال الشاعر العربي:

أمير المؤمنين على صراط 

إذا اعوج الموارد مُستقيم 

 

استدل على أنه طريق قويم، وبما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كان بمحفل من أصحابه، ورسم خطًّا مستقيمًا رسمه صلى الله عليه وسلم على التراب، وخطه بعود كان بيده، وقد ذكر البخاري هذا الحديث، ووضع هذا الرسم، وهكذا الإمام النووي في كتابه "رياض الصالحين"، رسم هذا الخط المستقيم كما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأجيال جيلًا بعد جيل، إلى أن وصل إلينا واضحًا جليًّا في غاية الوضوح والكمال، فلما رسم هذا الخط قال صلى الله عليه وسلم: هذا صراط الله المستقيم، ثم رسم خطوطًا عن جنبتي الصراط يَمنة ويَسرة ثم قال: هذه سبل الشيطان، ما من خط من هذه الخطوط إلا على رأسها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية من سورة النحل: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

 

فيا عبد الله، هل أنت مدرك ما تقول حين تسمع الإمام وتتلفظ أنت بأطيب الكلام ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، أو تدري من هم؟ تفسِّر هذه الآية آية من سورة النساء؛ يقول المولى سبحانه: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].

 

يا عبد الله، يا أمة الله، يا أيها المسلم، إنك صباحًا ومساءً تسأل من الله ذي الجلال والإكرام أن يجعلك على صراط مستقيم طريقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، طريقة الأنبياء ابتداءً بآدم وانتهاءً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وطريقة المرسلين ابتداءً بسيدنا نوح وانتهاءً برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، إنك ترجو من ربك الصراط المستقيم لتكون على توحيده كما كان عليه الأنبياء، لتكون على طاعة كما كان عليه الأنبياء، فلقد دعا نوح قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وقام إبراهيم مجادلًا أهل الباطل في ذات الله، حتى غضب القوم عليه وقرَّروا إقرار رجل واحد على إحراقه وإزهاق روحه، ولكن الأمور بيد الله.

إذا يئست وكاد اليأس يقطعني 

جاء الرجاء مسرعًا من جانب 

 

إنهم قرَّروا إحراقه؛ لأنه صاحب توحيد، وهم أصحاب شرك وإخلاد إلى الدنيا، فكانت كلمة الله هي العليا، قال الله: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، لقد سلَّمه الله، وهكذا موسى عليه الصلاة والسلام ذو الجدية في باب الدعوة إلى الله وصاحب العفة، دعا أعتى طاغية على وجه الأرض في ذلك الزمان، ومع ذلك نجاه الله ونصره على عدوه، فأنت تسأل من ربك صباحًا ومساءً أن يكون هؤلاء هم القدوة، وأنك يا عبد الله تسأل من ربك أن يهديك الصراط المستقيم؛ لتكون على عفاف كما كان سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام على عفاف وطهر ونفس زاكية، حينما دُعِيَ إلى البغي وإلى فاحشة الزنا، فقال: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 23].

 

لقد أكرَمه الله وصرف عنه السوء، وفضل دخول السجن من أن يرتكب الحرام، وهكذا العبد دائمًا مراقبًا لله.

وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة 

والنفس داعية إلى الطغيان 

فاستحي من نظر الإله وقل لها 

إن الذي خلق الظلام يراني 

 

أبَى أن يستجيب للمغريات والشهوات والملذات، رأى عليه السلام أن هذه الدنيا إنما هي أيام وأنها إلى الزوال، فأكرَمه رب العالمين بزواج تلك المرأة، وأن يكون عزيزًا على أهل مصر كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].

 

المراقبون الذين راقبوه في السراء والضراء، وهكذا يا أيها المسلم، أي نبي دخل في التاريخ من أوسع أبوابه من باب النبوة، الشهادة الرسالة الصديقية، العمل الصالح إلى قيام الساعة، فأنت تسأل من ربك هداية التوفيق والإلهام وهداية الدلالة والإرشاد في هذه الآية المباركة أن يجعلك تطرق طريقَه، وتسلك سبيله، فلابد أن تكون واعيًا لما تقرأه ولما تكرِّره على مسامع نفسك، وما تسمعه من إمامك لتعطي الآية اهتمامًا، لتكون من الذين عناهم الله: ﴿ فَبِشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]، ثم بعد ذلك تدعو الله ثانية ألا يجعلك تسلك طريقة اليهود والنصارى في باب الاعتقادات، في باب العبادات، في باب الأخلاق والسلوك والقيم، لكن واقع الكثير من المسلمين هو خلاف هذا، وربما نظر إلى أعداء الله نظرة إعزاز وإكرام، ونسي هذا العبد المفرط المسلم المسكين أنه أعظم وأكرَم عند الله من هذا اليهودي أو من ذلك النصراني، وإن كان في هذا الزمان حصل نظرة إعجاب باليهود والنصارى، ونظرة ازدراء واحتقار للمسلمين، لكن هكذا الليالي والأيام فالأيام دول.

لكل شيء إذا ما تَم نقصان 

فلا يُغر بطيب العيش إنسان 

هي الحياة كما شاهتها دولٌ 

من سره زمن ساءَته أزمان 

 

إنما هي دول، ولو نظرت في التاريخ الإسلامي، لنظرت ما هو أشد من هذا، فإن الإسلام ينتصر ويرتفع ارتفاعًا عظيمًا، ثم يكون ابتلاء واختبار لأصحابه، فهذا من الابتلاء والاختبار، وإلا فالدنيا دار هوان ودار زوال.

أحلامُ نوم أو كظل زائلٍ 

إن اللبيب بمثلها لا يخدع 

 

فعليك عبد الله أن تعلم أن الله أكرمك بالإسلام، وأكرمك في أن تكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تنخدع بالسراب الذي يَحسبه الظمآن ماءً، إياك أن تنخدع بالشعارات، أو أنك إذا نظرت إلى المسلمين وعندهم شيء من التخلف في باب الحضارة الدنيوية، مثلًا حصل عندك انقباض وانطواء، فليس العيب في الإسلام، إنما هو عيب المسلمين، وإلا فالإسلام هو الإسلام الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين، وهكذا الليالي والأيام، إنما هي هي، ولكن العيوب هي فينا يا عباد الله.

نَعيب زماننا والعيب فينا 

وما لزماننا عيب سوانا 

ونهجو ذا الزمان بغير حقٍّ 

ولو نطق الزمان لنا هجانا 

 

فحصل عندنا شيء من التكالب على الدنيا، ومن اقتراف الذنوب والمعاصي، واستقبال ما جاءنا من بنات الهوى، ومن المنكرات من الفضائيات والأقمار، وما إلى ذلك فاستقبلنا ذلك فأُشْربته عقولنا وقلوبنا، وفتحنا له بيوتًا عياذًا بالله، فذهبنا مسرعين وراء ما يَحكيه أعداء الملة الإسلامية من اليهود والنصارى، فحصل عندنا شيء من الضعف، وشيء من الوهن؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى على القصعة أكلتُها، قيل أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: لا بل أنتم أكثر، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة منكم، وليقذِفنَّ في قلوبكم الوهن، قلنا: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو داء المسلمين الذين أُصيبوا به في هذا الزمان، فنسأل الله أن يفك ويرفَع هذا الوهن الحاصل في صفوف المسلمين حتى تتبدل هذه النظرة، نظرة تفاؤل وأن يعتقد المسلم عقيدة خير في دينه وصلاحه ومستقبله، وأنه أكرم من اليهود والنصارى، ومن أرفعهم عند الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، هذا ما قلته لكم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

عباد الله، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أننا في دار ابتلاء واختبار، وأننا في دار عمل، وغدًا منقلبون من هذه الدار إلى دار الآخرة، فوجب على المسلم اللبيب أن يحتاط لنفسه، وأن يأخذ الحذر؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 18 - 24].

 

يا عباد الله، إننا أمة القرآن وأمة الإسلام، شرَّفنا الله بهذا الدين وأعلى منزلتنا في هذه الدنيا، وفي الآخرة حينما كنا متمسكين بشرع الله القويم، فنحن أعلى أمة على مرور العصور والدهور:

بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا 

من العناية ركنًا غير منهدم 

لما دعا الله داعينا لطاعته 

بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم 

 

ولكن عباد الله بسبب الذنوب والمعاصي، وبسبب نسيان الموت، والتكالب على الدنيا، حصل ضعف لهذه القلوب، فقد آن لهذه القلوب المريضة أن تفيق من سباتها ورقدتها، وأن تكون هذه القلوب متدبرة لكلام الله علام الغيوب، فوجب على هذه الأجسام التي تحمل هذه القلوب أن تنعش قلوبها، فإنما أنت بقلب لا بجسمك.

يا خادمَ الجسم كم تسعى لخدمته 

أتطلُب الربح مما فيه خسران 

أقبِل على الروح فاستكمِل فضائلها 

فأنت بالرُّوح لا بالجسم إنسان 

 

فإذا صلَحت هذه القلوب، فوالله ولو كنا على فقرٍ وعلى ضعف مادي، أو في مجال الحضارة والصناعة والتقدم، ما كان ذلك كله ليكسب المسلم في قلبه ضعفًا وركونًا وركودًا ونظرة عالية خفاقة فيما عند الشرق أو الغرب؛ ليغتر بما عندهم من الصناعة والحضارة، على أننا نقول: لا بد أن يكون المسلم قويًّا في دينه، قويًّا في عقيدته، قويًّا في مادته، وأن يكون له مشاركات في كل فنون الحياة في جانب الطب والهندسة، وهكذا كل الفنون وجب على المسلمين أن يكونوا أعلى وأرقى من كل الأمم، لكن إن لم يحصل هذا فاعلم أن رأس مالك هو الدين.

الدين رأسُ الأمر فاستمسِك به 

فضياعُه من أعظم الخسران 

 

أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يرينا الحق حقًّا، فيرزُقنا اتباعه والباطل باطلًا فيرزقنا اجتنابه، إنه على كل شيء قدير.

 

.