أن جمهور العلماء ضعفوه لأسباب ثلاثة:
الأول: سوء حفظه.
الثاني: تلقينه مما ليس من حديثه فيحدث به.
الثالث: تدليسه عن الضعفاء والهلكى، أمثال: المثنى بن الصباح، وإسحاق بن أبي فروة، ومع ذلك ربما صرح بالتحديث عمن لم يسمع منهم على سبيل التوهم والغفلة، ولذا ذكره الحافظ في الطبقة الخامسة من (طبقات المدلسين 140) وهي طبقة من يرد حديثه مطلقا ولو صرح بالسماع.
وزاد بعضهم سببا رابعا: ألا وهو الاختلاط، بعدما احترقت كتبه.
ومع هذا قد وثقه بعضهم، لا سيما قبل احتراق كتبه واختلاطه، وفرقوا بين رواية المتقدمين عنه، ورواية المتأخرين.
وذكر عن الحافظ عبد الغني بن سعيد أنه قال: ((إذا روى العبادلة: ابن وهب، وابن المبارك، والمقرئ، عن ابن لهيعة فهو سند صحيح))! (إكمال تهذيب الكمال 8/ 144).
وفهم بعض المعاصرين من هذا النص وأمثاله، أن رواية العبادلة عن ابن لهيعة صحيحة في ذاتها، وفيه نظر، بل الأقرب -والله أعلم- أن مرادهم أنها صحيحة النسبة إلى ابن لهيعة، لأن ابن لهيعة كان يتلقن كما تقدم، فأي كتاب جاؤوه به إليه حدث منه، وإن لم يكن فيه حديث واحد من حديثه، وهذا بخلاف رواية العبادلة عنه، حيث كانوا يتتبعون أصوله وكتبه.
قال ابن سعد عنه: ((كان ضعيفا، وعنده حديث كثير، ومن سمع منه في أول أمره أحسن حالا في روايته ممن سمع منه بآخره، وأما أهل مصر فيذكرون أنه لم يختلط، ولم يزل أول أمره وآخره واحدا، ولكن كان يقرأ عليه ما ليس من حديثه فيسكت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: وما ذنبي، إنما يجيئون بكتاب يقرؤونه ويقومون، ولو سألوني لأخبرتهم أنه ليس من حديثي)) (الطبقات الكبرى 9/ 524).
وعن يحيى بن حسان، قال: ((جاء قوم ومعهم جزء فقالوا: سمعناه من ابن لهيعة، فنظرت فيه فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ابن لهيعة، قال: فقمت فجلست إلى ابن لهيعة، فقلت: أي شيء ذا الكتاب الذي حدثت به ليس ها هنا في هذا الكتاب حديث من حديثك، ولا سمعتها أنت قط؟! قال: فما أصنع بهم يجيئون بكتاب فيقولون هذا من حديثك فأحدثهم به؟!)) (المجروحين 1/ 506). وسيأتي مزيد بيان لذلك من أقوال الأئمة.
قلت: ولهذا كان الذي عليه المحققون من أئمة الحديث وجهابذته: كأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والبخاري، ومسلم، وغيرهم، ممن سبقهم وممن أتى بعدهم؛ عدم الاحتجاج به إذا انفرد مطلقا، سواء في ذلك رواية المتقدمين عنه ورواية المتأخرين، إلا أن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها وأجود، وهي صالحة للاعتبار والشواهد، لا للاحتجاج.
وإليكم بعض أقوالهم الدالة على ما ذكرت:
* قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ((قلت لأبي: إذا كان من يروي، عن ابن لهيعة مثل: ابن المبارك، وابن وهب يحتج به؟ قال: لا)).
* قال عبد الرحمن: ((سئل أبو زرعة: عن ابن لهيعة سماع القدماء منه، فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك، وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه من أجمل القول فيه)) (الجرح والتعديل 5/ 147 - 148).
وقال أبو زرعة أيضا: ((لم تحترق كتبه، ولكن كان رديء الحفظ)) (الضعفاء له - رواية البرذعي 2/ 346).
وعلى هذا جرى عملهما -أعني: أبا زرعة، وأبا حاتم- في إعلال أحاديث ابن لهيعة دون تفريق بين العبادلة وغيرهم، انظر المسائل التالية من (علل ابن أبي حاتم 634، 635، 636، 637، 768، 960، 2755، 2807) [نقلا من مقدمة د. سعد الحميد (ص 287)].
* وقال يحيى بن معين: ((قال لي أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات)). قال ابن الجنيد: ((قلت ليحيى: فسماع القدماء والآخرين من ابن لهيعة سواء؟ قال: نعم، سواء، واحد)) (سؤالات ابن الجنيد ص 164).
وقال في (رواية ابن طهمان 298): ((ابن لهيعة ليس بشيء))، قيل ليحيى: ((فهذا الذي يحكي الناس أنه احترقت كتبه. قال: ليس لهذا أصل)). وقال في موضع آخر: ((ابن لهيعة ليس بشيء تغير أو لم يتغير)) (من كلام ابن معين في الرجال - رواية ابن طهمان 342).
وأكد ذلك في (رواية ابن محرز) فقال: ((ابن لهيعة في حديثه كله، ليس بشيء))، وقال مرة أخرى - وسئل عن حديث ابن لهيعة-: ((ابن لهيعة ضعيف في حديثه كله لا في بعضه)) (رواية ابن محرز 134).
* وقال الإمام أحمد: ((ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرا مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض)) (تاريخ دمشق 32/ 154). وهذا يقيد ما ذكر عن أحمد من الثناء عليه.
* وقال عمرو بن علي الفلاس: ((عبد الله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل: ابن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ أصح من الذين كتبوا بعدما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث)) (الجرح والتعديل 5/ 147).
قلت: فمع قوله أن رواية العبادلة أصح من رواية غيرهم أطلق الضعف، وفي هذا دليل واضح على ما ذكرنا من أنهم أرادوا بالصحة (الصحة النسبية) أي: أن روايتهم أصح من غيرهم وأخف ضعفا، لا أنها صحيحة في ذاتها. فتأمل.
* وقال ابن حبان: ((قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودا. وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيرا، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفى، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به ....
وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قرأه سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه.
فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه)) (المجروحين 2/ 11 - 13).
* وذكره الدارقطني في ((الضعفاء والمتروكين))، وقال: ((يعتبر بما يروي عنه العبادلة: ابن المبارك، والمقرئ، وابن وهب)) (الضعفاء والمتروكون 319).
وهذا يعني: أن رواية غيرهم مما لا يعتبر بها، لكونها ليست من حديثه، على ما بينته آنفا.
* ونقل الإجماع على ذلك البيهقي، فقال: ((وقد أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة، وترك الاحتجاج بما ينفرد به)) (معرفة السنن والآثار 9/ 43) (1).
* وقال الذهبي: ((لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية، ... ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم.
وبعض الحفاظ يروي حديثه، ويذكره في الشواهد والاعتبارات، والزهد، والملاحم، لا في الأصول.
وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنه عدل في نفسه ... وما رواه عنه ابن وهب، والمقرئ، والقدماء فهو أجود)) (سير أعلام النبلاء 8/ 14).
وقال أيضا: ((العمل على تضعيف حديثه)) (الكاشف 2934).
هذا والله أعلم.