الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }[ النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }[ الأحزاب70 ـ 71].
أما بعد :
فإن أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
معاشر المؤمنين :
لقد حرص النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرصاً عظيماً على أصحابه وعلى هذه الأمة بتعليمهم العقيدة الصحيحة المنبثقة من كتاب الله ومن هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام فمكث في مكة ثلاث عشر عاماً يؤصل هذا الأصل العظيم أصل العقيدة والتوحيد ، فالعقيدة مأخوذة من العقد وهو الربط بقوة وإحكام وأما في الميزان الشرعي فالعقيدة هو الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده وتعني العقيدة الإسلامية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ما ثبت من الأمور العلمية والعملية ثبوتاً قطعياً على ما ورد في كتاب ربنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام وكان هذا الأمر له أهمية بالغة لأنه يعتبر الفقه الأكبر عقيدتك في ربك وخالقك سبحانه وذلك أنهم كانوا قبل البعثة أعني المشركين يعيشون في ضلالات وجهالات يعيشون في قلق واضطراب في كل المستويات كما عناه المولى بقوله :{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }[آل عمران164, الجمعة2].
ضلال في البيوع والأنكحة وضلال في الأخلاق والقيم وضلال في العبادة والعقائد فكان الرجل العظيم الجسيم إن نزل وادياً قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي يعني : يستعيذ بالجن من الجن فقال سبحانه:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن6].
:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن6].
فكانوا يعيشون في عذاب مهين وفي ضلال مبين فبعث الله محمداً سيد الأولين والآخرين فعالج هذه القضية علاجاً تاماً نافعاً فأصل أصول هذه العقيدة بمكة ولقد كان القرآن كله يعالج هذه إلا أن القرآن في العهد المكي كان أكثر تشييداً لهذا الصرح العظيم وهكذا من فارق أمر العقيدة ولم يفوض ما عناه الله وأمر به لا شك أنه في ضلال كما حصل للفلاسفة وأهل الكلام حينما حصل عندهم اضطراب وتردي فقال قائلهم( ) :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعـاً كـف حـائـر علـى ذقـن أو قارعاـً سـن نـادم
فقال له صاحب عقيدة سليمة ( ): يا أستاذ
لعلك أهملـت الطـواف بمعهــد الرسول ومن والاه من كل عالم
فما خاب من يهدي بهدي محمدٍ ولســت تــراه قـارعـاً سـن نـادم
هذا الحرص يتبين بجلاء من عدة قضايا ووقائع من ذلك ما جاء في جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : { يا غلام إني أعلمك كلمات إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف }( ).
وفي رواية متصلة بهذه قال له : { إحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً }( ).
وثبتت وقائع كثيرة لولا الإطالة لبيناها فهذا أمر من الأهمية بمكان أن يكون العبد عالماً بما يختص بالرب تبارك وتعالى ومن هذه العقيدة معرفة علم الغيب فهو اختصاص الرب تبارك وتعالى كما قال المولى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً }[الجن26].
فمن الذي استقل بهذا الأمر إنه الله سبحانه وتعالى كما في آيات كثيرة من القرآن { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[هود123, النحل77].
{ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }[النمل65] .
وحصر الله مفاتيح الغيب على نفسه فقال: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[الأنعام59]. وبين هذه المفاتيح بينها بياناً شافياً كافياً في آية أخرى وعلى لسان محمدٍ عليه الصلاة والسلام جاء في الصحيحين عن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى : لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله تعالى و لا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله تعالى و لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تعالى و لا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى و لا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله تعالى } ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[لقمان34]}( ) .
فمفاتح الغيب من اختصاص الله رب العالمين وأما البشر أو غير البشر فرسم الله عز وجل لهم نواميس في هذا الكون لا يعلمونها وإنما يأتونها حسب ما رسمه الله عز وجل
مشيناها خطاً كتبت علينا ومن كتبت عليه خطاً مشـاهـا
وأرزاق لنا متـفــرقـــات فمــن لـم تـأتــــه مــنـا أتـــاها
ومن كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها( ).
ولو أخذنا سرداً سريعاً لو تأملنا إلى عالم الملائكة وهم أهل القرب من الله سبحانه إنهم هناك في الملأ الأعلى يسبحون ويقدسون ويقومون بعبادات عظيمة ومنهم حملة العرش.
الملائكة لا يعلمون الغيب أبداً إلا ما أعلمهم الله عز وجل به واسمع إلى دليل من القرآن يا صاحب القرآن قال سبحانه :{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:31ـ 32].
فهؤلاء الملائكة ينفون عن أنفسهم علم الغيب فهم لا يعلمون ذلك وإنما ما يطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه من المغيبات وهم يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون( ).
ولو تأملت إلى أجسامٍ قوية خلقهم الله وجعل لهم تلك الأجسام قادرين على الإختراق وحمل الأثقال لكن لهم قوى محدودة لا يستطيعون تجاوزها إنهم الجن الذين امتثلوا لسليمان أن ينقلوا إليه عرش بلقيس من سبأ من بلاد اليمن إلى أرض الشام قبل أن يقوم من مقامه( ) ثم كان ما كان {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}[النمل42]. وهكذا جيئ بعرش بلقيس من اليمن إلى بلاد الشام.
هؤلاء الجن سخرهم الله لسليمان بن داوود فلقد أعطى الله سبحانه وتعالى سليمان ملكاً عظيماً كما قال سبحانه : {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ }[النمل:17ـ 18]
فكان له الجن كما قال سبحانه: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ }[ص37]. يقومون بأعمال عظيمة وكانت الرياح تنقله ومواكبه من مصر إلى مصر ومن بلد إلى أخرى هؤلاء الجن وقعت لهم قصة عجيبة مع سليمان سطرها القرآن الكريم أمرهم سليمان بأعمال فامتثلوا أمر سليمان وكان الله قد سلطه عليهم بالقهر والأمر فلا يستطيعون الخروج عن سلطانه أبداً يقول سبحانه :{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }[سبأ14]. كان سليمان واقف على كرسيه بيده عصاه والجن مقهورين مذللين له عاملين ليلاً ونهاراً بكل خوف من سليمان فالله يقبض روح هذا النبي واستمر زمناً طويلاً قيل ألف عام وهو ميت على كرسيه والجن لا يعلمون من ذلك شيئاً فلما جاءت الأرضة وأكلت أطراف العصا فضعف العصا من أن يتحمل جسد سليمان فخر على الأرض ميتاً :{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}يعني عصاته{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }[سبأ14]. فالجن لا يعلمون الغيب.
الرسل أكثر من مائة وأربعة وعشرين ألف نبياً رسولاً من أولهم إلى آخرهم لا يعلمونالغيب قال سبحانه:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة109] وأول الأنبياء نوح وهو لا يعلم الغيب أبداً كما حكى الله عز وجل عنه : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }[هود31].
وهذا العبد المغفور ما تقدم له من ذنبه وما تأخر سيد الثقلين خليل رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يعلم الغيب فمن ذا الذي قد استقل بعلم الغيب إنه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحدٌ من البشر أو من غير البشر أن يثبت الغيب بعد لحظات أو ساعاتٍ أو يوماً أو أيام يثبته لبعض البشر إذا كان سيد الأولين والآخرين لا يعلم فغيره من باب أولى وأحرى اسمع إلى القرآن وهو يقرر هذه العقيدة يأمر الله محمداً أن يقول للناس: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[الأعراف188].
هل تريدون حوادث واقعية تدلل على ذلك إليكم بعض القضايا سحر النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر بكاملها وهذا ثابت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري سحر ستة أشهر سحره لبيد بن الأعصم حليف اليهود أخذ من رسول الله شعيرات ثم عقدها بمشط وأنزلها في بئرٍ يقال لها : بئر ذروان في المدينة واستمر رسول الله معلولاً ستة أشهر وكان لا يدري ولو كان يدري لما استمر مريضاً طيلة هذه المدة فأرسل الله إليه ملكين فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال : ما له قال : مطبوب قال : فمن الذي طبه قال : لبيد بن الأعصم اليهودي حليف اليهود قال : بماذا ؟ قال : بمشط ومشاطة في بئرٍ يقال لها بئر ذروان فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم يقول : يا عائشة أما ما بي من المرض فقد بينه الله لي ثم يذهب صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه و يأمرهم بتنظيف هذه البئر وبنزح ما فيها من المياه فوجدوا السحر هناك وماؤها كأنه نقاعة الحناء فبرئ النبي صلى الله عليه وسلم من مرضه( ).
ورجع صلى الله عليه وسلم قافلاً من بعض الغزوات وإذا بعائشة رضي الله عنها يسقط عقد من الذهب من عنقها ثم أقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه طيلة الليل منتظرين حتى تجد عائشة زوجة رسول الله عقدها الذي ظل عنها ولما كان صلاة الفجر لم يجدوا الماء فيأتي أبو بكر إلى عائشة فيتكلم عليها بكلامٍ شديد قالت : وكان يطعنني بأصبعه في خاصرتي لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حجري لتحركت قال لها : حبست الناس من غير ماء ثم أنزل الله آية التيمم فيأتي أسيد بن حضير ويقول : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، ولما انتهوا من صلاة الصبح بالتيمم أقاموا البعير الذي كان أمام عائشة ووجدوا العقد تحت هذا البعير( ) فلو كان رسول الله يعلم الغيب لدلهم عليه من أول وهلةٍ.
وهكذا أيضاً جاء في صحيح البخاري أن يهودية من يهود خيبر سألت : أي شيء من اللحم يعجب رسول الله قالوا لها : يعجبه الذراع فطبخت له شاة ثم كثرت السموم على الذراع وجعلت في بقية الشاة سماً أيضاً لكنها أكثرته في الذراع فيأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويأكل وهو لا يدري فأكل نهستين أو ثلاثاً ثم قال الذراع : يا رسول الله لا تأكلني إني مسموم ، وكانت هذه الأكلة قد أثرت عليه صلى الله عليه وسلم بل كان موته من جرائها فاستدعى تلك اليهودية قال لها : هل وضعت سماً على الذراع ؟ قالت : نعم فقال لها : ما حملك على ذلك قالت : إن عرفت أن فيه سماً عرفت أنك نبي وإن كنت تكذب استرحنا منك وأرحنا الناس فلم يعاتبها صلى الله عليه وسلم وهذه كانت أخلاقه وسجاياه والشاهد من ذلك لولا أن الله أنطق الذراع لما علم بذلك صلى الله عليه وسلم( ).
وهكذا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق أشاع المنافقون وأرجفوا بحادثة الإفك أعلنوا وأشاعوا أن عائشة زنت والذي زنا بها صحابي جليل بزعمهم هو صفوان بن المعطل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأوفياء فما استطاع رسول الله أن يكذب الخبر اللهم إلا أنه قال : { أهلي ولا أعلم عن أهلي إلا خيراً } ونسيت أمراً مهماً حينما خرجوا من الموضع الذي نزلوا فيه ذهب البعير الذي تمتطيه أم المؤمنين عائشة لو كان رسول الله يعلم الغيب لقال : هذا البعير ليس فيه أحدٌ من النساء لكنه لا يعلم ثم تستمر حادثة الإفك ثلاثين يوماً ورسوله صلى الله عليه وسلم واقف على أعصابه حتى نزلت براءتها من السماء في عشر آيات من سورة النور فهناك أخذ بعض الذين خاضوا في هذه الفتنة وجلدوا من ثمانين جلدة تطهيراً لأنهم قذفوا عروس رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
فهذه كلها أدلة تقتضي
أن سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين لا يعلم الغيب {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً }[الجن26].
فهو لا يعلم الغيب وغيره صلى الله عليه وسلم من باب أولى أصحابه لا يعلمون الغيب التابعون لهم بإحسان لا يعلمون الغيب من الذي يعلم الغيب إذاً؟ إنه الله سبحانه وتعالى فاسمع إلى ربك وهو يقرر هذه القضية قائلاً : { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[هود123, النحل77].
وهنا كما يقول علماء النحو واللغة : أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والإختصاص فقدم حروف الجر لتكون خبراً مقدماً ثم جاء باللفظة التي تلي غيب مبتدأ مؤخر ليدل على الحصر.
حصر رب العالمين الغيب على نفسه فهو الذي يعلم الغيب ومن ادعى أنه يعلم الغيب دون الله سبحانه وتعالى فهو بين أمرين اثنين تسمعون بعض التفصيل في الخطبة الثانية إن شاء الله .
اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم وانفعنا بآياته والذكر الحكيم وانفعنا بسنة سيد الأولين والآخرين هذا ما قلته لكم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه :
معاشر المؤمنين : من زعم أن أحداً يعلم الغيب سوى الله سبحانه وتعالى فهو إما أن يكون كذاباً دجال ولا يستطيع أن يقيم الدليل وإما أن يكون جاهلاً فيعلّم وقد نقلنا ما فيه الكفاية من العلم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالأول : من قال إن غير الله يعلم الغيب نحن لا ننكر ذلك لكنه بنسبة واحد في المائة عن طريق الجن والشياطين : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ }[الشعراء: 221ـ223] .
فهؤلاء الجن يرتفع بعضهم فوق بعض فيسترقون بعض العبارات من السماء فلهم في الأرض قرناء يتعاملون فيما بينهم فيقولون كلمة صادقة لكنهم يكذبون معها تسعة وتسعين كذبة هذا ما أفصح به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن كثيراً من المسلمين ربما يصدق أو إن حصل له أمرٌ اتفاقاً ظن أن ذلك يعلم الغيب أو من علم الغيب المطلق وإنما هو كما أسلفت بنسبة واحد في المائة كما أثبت ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم( ) فلو طالعت في بعض الصحف والمجلات تجد فيها زوايا ما يتعلق بالحظوظ والأبراج برج الدلو والميزان والثور والعقرب والدبران هذا العلم علم التنجيم وهو ضرب من ضروب السحر علم الشعوذة والكهانة إنها علومٌ خرافية انطلى باطلها على كثير من الجهال أما العلماء فهم في معزل وفي عصمةٍ من الله سبحانه وتعالى لكنه انطلى على كثير من المسلمين حينما تركوا العلم الصحيح فلم يلتفتوا إليه وإن تعجب فعجباً لتلك النشرة السنوية التي وصلت عددها الثامن بعد المائة وهي نشرة نتيجة فلكي بيت الفقيه يصدرها ذلكم الرجل محمد بن أحمد مهدي أمين سنوياً ففيها من الكذب والهراء والضحك والخرافة ما يعلمه من كان على علم ودليل واضحٍ من أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فكم أخبر بمغيبات فكانت خلاف ما يقرره وكم أخبر هؤلاء الكهنة والمشعوذون والمنجمون بأمور ثم كان على خلاف ذلك سعادة وزير ونحس أمير وموت رئيس وزلازل وغلاء وخيرات وبركات ثم لا يكون من ذلك شيء أبداً فمن أين هذا العلم ؟ هو عبارة عن استمداد من النجوم كما في حديث ابن عباس في سنن أبي داود : { من اقتبس علماً من النجوم اقتبس علماً من السحر زاد ما زاد }( ).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة}( ). و{ من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد }( ).
فالواجب على المسلم أن يحذر من هذه النتيجة وهكذا من الطلاسم والأبراج في كثير من الصحف والمجلات وإن خاض فيها عن طريق التسلي والتشهي لم تقبل له صلاة أربعين يوماً وإن كان على وجه التصديق والإعتقاد يكون كافراً بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم لأن هذا من علوم الغيب { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[البقرة102].
هذا ضربٌ من ضروب السحر والشعوذة وصار للسحر والشعوذة مدارس وجامعات وشهادات وصار لها قنوات أيضاً وهكذا في الأفلام الكرتونية التي تعرض على الأطفال بمرأى ومسمع من كثير من المسلمين يخربون عقائد المسلمين فكن على ثقة أيها الأخ بقوله سبحانه:{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }[التوبة51]. يتصل متصلٌ من بعض الدول بأحد الأثرياء ويقول : اسمك فلان ويأتيه باسمه وبأمور خاصّة فيه ثم طلب منه تحويل ألفي دولار فوافق وإلا أرسل له بعض الجن. إلى هذا المستوى بلغ الخوف بالمسلمين وكان الواجب على المسلم أن يكون متوكلاً على الله سبحانه وتعالى فنحن نجزم وبقوة نقولها وبتحدّ أيضاً أن هذه النشرة وما سواها من التكهنات هي ضرب من السحر والكهانة والتنجيم والشعوذة يرضى من يرضى ويسخط من يسخط نقول ذلك حسبة لوجه الله سبحانه وتعالى.
وإليك هذا النموذج عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه( ) حينما خرج لمناجزة الخوارج أراد أن يسافر إلى الخوارج لقتالهم فقال له بعض المشعوذين : يا أمير المؤمنين لا تخرج فإن القمر في الدبران أو قال القمر في العقرب وهو نوع من أنواع التنجيم علامة فقال له أمير المؤمنين : بل والله سنخرج توكلاً على الله وثقة بالله وتكذيباً لك ثم خرج عليٌ رضي الله عنه وفتح الله على يديه ونصره الله على أعدائه( ).
وهذا المعتصم بن هارون الرشيد( ) استنجدت به امرأة مسلمة من عمورية قائلة وامعتصماه فحرك تسعين ألفاً من المسلمين لنجدة تلك المرأة فقال له جمع تصور جمع من المنجمين قالوا له : أيها الأمير لا يحسن بك الخروج وإن خرجت لن تنصر أبداً لا يمكن أن تنصر إلا إذا نضج التين والعنب تأمل إلى هؤلاء السذج لا يكون النصر إلا إذا نضج التين والعنب فأخرج المعتصم سيفه قال : بل والله سينصرنا الله سبحانه وتعالى فجاء إليه أبو تمام( ) فأرسل إليه قصيدة رائعة ذائعة منها هذه المقطوعة قائلاً ليرد على ذلك المنجم :
السيــف أصـدق أنبـاء مـن الكتـب فـي حــده الحـد بيـن الجــد واللعـب
أيـن الروايـة بل أيـن النجـوم ومـا صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
وخوفوا الناس مـن وهيـاء مظلمة إذا بـدا الكوكـب الغـربـي ذو الذنـب
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت أعمـارهم قبـل نضـج التيـن والعنب
ثم خرج المعتصم وحصل النصر المؤزر واندحر أولئك المنجمون إخوان الكهنة والشياطين( ) .
فيا أمة محمد ويا أمة العقيدة والتوحيد : ممن تخافون ؟ أتخافون من الجن ؟ ومن العفاريت والمنجمين ؟ إنه لا يليق بكم وأنتم تحملون كتاب الله وسنة رسول الله وتعاليم الإسلام فأنت إذا قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم خنست الشياطين كلها وإذا أذنت الله أكبر هناك يندحر كل شيطان ومبطل فكن على هذه العقيدة فلو جاءك من جاءك من الناس يقول : هو مرسل من ابن علوان أو من صفي الدين أو عندك ثعبان في الحمام أو بين الطحين فإياك أن تصدق ذلك فقل له : دع ثعباني لي واتكل على الله من عند بابي وإن استطعت أن تنصحه فانصحه فلا ينبغي أن يكون المسلم مهزوزاً في عقيدته إياك أن تتشاءم بل عليك أن تقدم في أمر يحبه الله ورسوله أمر مباح من زواج أو تجارة أو عمل فإياك أن تتشاءم فبعض الناس ربما يتشاءم بشهر صفر مثلاً أو بيوم الأربعاء أو إن رأى رجلاً أصلع أو أعرج أو أعور رجع وما يخرج في ذلك اليوم توكل على الله
توكل على الرحمن في الأمر كله فما خاب حقاً من عليه توكلا
كن متوكلاً على الباري سبحانه وتعالى ولا يثنيك شيء من ذلك أبداً
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وتأمل في هذين الأميرين علي بن أبي طالب والمعتصم بن هارون الرشيد كيف كان عندهم من الجرأة على التكذيب تكذيب هؤلاء المنجمين ثم بعد ذلك الإقدام على أمر أمر الله سبحانه وتعالى به هكذا فعلى المؤمن أن يكون معتقداً أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن :{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }[التوبة51].
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .