بستان جميل جمع كل أصناف الزروع والثمار، نما وأينع ثمره، وقد نماه رجل صالح عرف ما حقُّه فأداه، أطعم من بستانه الفقير واليتيم والأرملة والمسكين، كانوا في كل فترة نضج وحصاد يتفاءلون ويستبشرون برزق كريم يأتيهم من بستان هذا الرجل الصالح، وكان ظنهم لا يخيب، فكان يختار لهم من طيب الثمار ما يملأ لهم أوعيتهم، فيعودون إلى أُسَرهم محملين بالثمر، فرحين بإطعام ما يعيلون من الأبناء، والله تعالى يبارك لصاحب هذا البستان، ويزيده من نعيمه، يحفظ عليه بستانه من الآفات، ويحفظ عليه الماء لريِّها، لقد سمعنا بالحديث الشريف الذي يروي لنا الصوت القائل: ((اسقِ حديقة فلان))، لسحابة في الجو، فتنحى ذلك السحاب وأفرغ ماءه في حرة وجرى الماء، ولما تتبع الذي سمع الصوت مجراه وجد رجلًا يسقي حديقته، فسأله عن اسمه، فوافق ما سمع، ولما سأله: ماذا تصنع بمحصول الحديقة؟ أخبره أنه يقسم محصوله أثلاثًا، ثلثًا للصدقة، وثلثًا له ولأولاده، وثلثًا يعيده في الأرض بذرًا ليزرعها من جديد "الحديث في صحيح مسلم"[1] (https://www.alukah.net/culture/0/150619/%D8%A3%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9/#_ftn1).
عاش هذا الرجل الصالح وهو على هذا المنوال إلى أن توفاه الله، وورث أبناؤه البستان، ولم يكن الأولاد كلهم على منهج أبيهم؛ فقد تنوَّعت آراؤهم واختلفت ما بين محب للسير على منهج الوالد، ومعارض بشدة ذلك المنهج، وقاد أولئك المعارضين أكبرُهم، وكانوا بعيدين عن التقوى، وغير ملتزمين بما عليهم من حق السائل والمحروم، معللين المنع بكثرة الولد وقلة المحصول، وأنها أصبحت لا تسد حاجتهم، وكان صوت المحافظين - وهو أوسطهم - لا يقوى على المعارضة، فانتصر قول الممانعين، ولقد صور القُرْآن حالة أولئك الإخوة وتصرفهم الذي يدل على إقدامهم على عمل غير لائق؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 17]، كان حال قريش حيث جاءهم رسول منهم فكذبوه، فامتحنهم الله بالقحط والجوع كحال هؤلاء الأبناء أصحاب الجنة وما جرى بينهم، ولعل قريشًا كانت تعرف خبر هؤلاء الأبناء؛ فقد ورد أن جنتهم كان قرب صنعاء، وقيل: هم من ثقيف، كانوا باليمن، فوصل خبرهم إلى قريش عن طريق جيرانهم الثقيفيين، فقد اتفقوا وأقسموا على أن يخرفوا ثمرها في الصباح الباكر قبل أن ينتبه إليهم الفقراء، ﴿ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ﴾ [القلم: 18] لم يقولوا عند القسم: إن شاء الله؛ لأنهم كانوا عازمين على تنفيذ ما خططوا له دون تراجع، ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾ [القلم: 19]، خططوا لحرمان المساكين من حقهم الذي جعله الله في مال الأغنياء، والله تعالى مراقب أفعالهم، ومطلع على ما في قلوبهم، فبادلهم لقاء شُحهم وبخلهم بأن سلَّط عليهم جائحة أتتهم تحت جنح الظلام، كانت أحلامهم وهم نائمون ينتظرون الصباح بما خططوا له من حيلة للتهرب من الفقراء، وكانوا يحلمون بكيفية جني المحصول بسرعة فائقة فلا يطلع النهار إلا وقد انتهوا منه، فإذا ما أتى المساكين ليطلبوا صدقتهم، وجدوا الأشجار خاوية لا ثمر فيها، فيخيب أملهم، ويرجعون كما أتوا خفافًا ليس معهم من الطعام لأولادهم شيء، فكان كبيرهم الذي خطط لهذا المنع يقهقه في نومه كلما مرَّ الحلم بخاطره وهو يرى الفقراء يعودون بخُفي حنين، ولكن الله يسمع ويرى، أمرُه الأمرُ، وتدبيره التدبير، فكما خططوا لإحداث مفاجأة للفقراء غير مسبوقة، فقد دبر الله لهم أمرًا غير معهود لهم، لقد أحالها الله تحت جنح الظلام خرابًا يبابًا كأنما عبث بها الشقاء، أو جاس بها جيش من الأعداء؛ فأحالها أرضًا مواتًا ﴿ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 20]؛ أي: سوداء كالليل المظلم، وقيل: احترقت فتحولت فحمًا ورمادًا، وأتى الصباح ﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 21]؛ أي: أيقظ بعضهم بعضًا عند الصباح لكي يسرعوا خفافًا إلى بستانهم ﴿ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ﴾ [القلم: 22]، تصوير بليغ لحالهم وهم يستيقظون ويتنادَوْن فيما بينهم للذهاب إلى بستانهم للصرام وجني المحصول بحذر، كأنما يقومون بفعل شيء غير مستحبٍّ، ﴿ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾ [القلم: 23]، ومشَوْا في غاية الحذر والتستر والانسلال بعيدًا عن أعين الرقباء من الفقراء، مشوا باتجاه البستان بلا ضجة، حتى إن كلامهم فيما بينهم كان خافت الصوت زيادة في الحذر والتخفي، ممن؟ ﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴾ [القلم: 24]؛ فكل هذه السرية في الخروج إلى البستان كانت من أجل أن يمنعوا المساكين من دخول بستانهم وأخذ الصدقة المعهودة كما كانت في أيام والدهم، ﴿ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾ [القلم: 25]، لقد أحكموا الخطة ضد المساكين، واطمأنوا إلى دقة تنفيذها من قِبل الجميع، فوزعوا المهمات، وأخذ كل واحد منهم مهمته، وحفظ الدور المطلوب منه، ثم انطلقوا إلى الجنة، فلما وصلوا أنكروا ما رأت أعينهم، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّالَضَالُّونَ ﴾ [القلم: 26]، لما رأوها في حالتها المحترقة لم يعرفوها؛ لأنهم تركوها قبل يوم سليمة خضراء تزدهي بنضرتها، فقالوا: ليست هي، قد ضللنا الطريق، فتعالوا نبحث عن مزرعتنا، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا بغرباء عن المكان؛ فهم يعرفونه تمام المعرفة، ولكنهم يحاولون التخفيف من الصدمة وعدم تصديق ما رأوه، فإن الذي رأوه مخيف، لقد عوقبوا بذهاب ثمارها وزروعها، ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [القلم: 27] إن المؤكد لنا أننا حُرمنا من جنى جنتنا وخيرها وثمارها بسبب ما عزمنا عليه من حرمان الفقراء من نصيبهم منها، ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 28]، وعنى هنا بالأوسط صاحب الرأي الصائب الذي نصحهم بالسير على منهج أبيهم، لقد قلت لكم: اتقوا الله وسبَّحوه، ولا تُقدموا على فعل الشر، مثلما يحصل بين الناس في أحيان كثيرة حين ينوي إنسان فعل الظلم، فيقول له المصلحون: قل: لا إله إلا الله، ويكررونها لكي يذكروه بالله، فلا يقدم على الظلم، وهكذا فعل أوسطهم، وقيل: لما أقسموا ليصرمنها مصبحين، طلب منهم أن يستثنوا بقول: إن شاء الله، فلو فعلوا لما حصل هذا لجنتهم، وهذا ضعيف، بل لا يجوز الاستثناء عند نية الشر؛ أي: لا يصح أن يقول: سأسرق غدًا إن شاء الله، ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [القلم: 29]، ذهبت السَّكْرة، وعادت الفكرة، كما يقال، كان لا بد لهم من صدمة توقظهم مما هم فيه من ضلال، فكان احتراق الجنة؛ لذلك - وهم أبناء الرجل الصالح - عادوا إلى المسار الصحيح، فسبَّحوا الله واستغفروه، واتهموا أنفسهم بالتقصير وظلم الفقراء بمنعهم حقهم، والفشل عادة يجعل الشركاء في خلاف وتلاوم، ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴾ [القلم: 30]؛ فأصبح كل منهم يلوم الآخر بإظهار ما اقترح من سداد الرأي مقابل المقترح الفاشل من المتنفذين الذين تسببوا في هذه الكارثة، ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾ [القلم: 31]، اعتراف آخر وندامة أخرى وأمل بالتوبة ورجاء، ﴿ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ [القلم: 32]، وانقلبت توبتهم إلى الرجاء من ربهم ليعوضهم عن هذه الخسارة وأنهم سيسيرون على منهج والدهم من حفظ لحق السائل والمحروم، وأنهم راغبون طالبون العفو والخير من ربهم، مستسلمين لمشيئته سبحانه، وبعد هذا الإعلان والتوبة فإن الله بالناس غفور رحيم، وهو الجوَاد الكريم، فقد عوضهم خيرًا مما ذهب، وبعد هذه القصة التي عرضت لتتذكر قريش وتعتبر، ﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [القلم: 33]، هذا نموذج من عقاب من يريد الإفساد في الأرض، وفي الآخرة ينتظره عذاب أشد وأنكى، فليتنبه للعاقبة من يريد السير في طريق الضلال.