قواعد وضوابط لتفسير القرآن الكريم

قواعد وضوابط لتفسير القرآن الكريم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن التفسير له قواعد وضوابط وضعها العلماء تناولها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مقدمته في أصول التفسير، وكذا القرطبي وابن عاشور في مقدمة التفسير، وقد ذكر الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ في مقدمة تفسيره أن أصح التفاسير ما كان بالقرآن والسنة، أي تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم ما كان بأقوال الصحابة ثم بأقوال أئمة التفسير من التابعين، ثم ما كان بلغة العرب، وقال السيوطي في الإتقان  ما ملخصه: للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:

الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

الثاني: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقاً، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها، مما لا مجال للرأي فيه.

الثالث: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى مالا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

الرابع: الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ـ رواه البخاري ومسلم.

فمن فسر القرآن برأيه أي: باجتهاده ملتزماً الوقوف عند هذه المآخذ معتمداً عليها فيما يرى من معاني كتاب الله، كان تفسيره سائغاً جائزاً خليقاً بأن يسمى تفسيراً، ويكون تفسيراً جائزاً ومحموداً، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطاً مرذولاً خليقاً بأن يسمى التفسير غير الجائز، أو التفسير المذموم. اهـ.

ويقول صاحب مناهل العرفان: فالتفسير بالرأي الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفاً بقوانين اللغة، خبيراً بأساليبها، وأن يكون بصيراً بقانون الشريعة، حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه، أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها:

التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة. ومنها: حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة. ومنها: الخوض

الخوض فيما استأثر الله بعلمه. ومنها: القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل. ومنها: السير مع الهوى والاستحسان. ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما: الجهالة والضلالة. اهـ.

فمن فسر من أهل العلم آية بما يفيد الاستدلال بها على بعض الحقائق المتعلقة بالاعجاز العلمي لا إثم عليه فلا يزال أهل العلم يفتح الله عليهم في فهم القرآن، وفي الحديث: أن أبا جحيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري.

ولا يجوز للعامي أن يتكلم في كتاب الله تعالى برأيه المجرد دون استناد إلى مرجع أو أصل، قال الترمذي: باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، وذكر فيه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ـ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأخرج من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ـ قال أبو عيسى: هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم.

قال في تحفة الأحوذي: من قال في القرآن برأيه أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي، قاله القاري ومن قال ـ أي من تكلم ـ في القرآن أي في معناه أو قراءته برأيه أي من تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله وهو مما يتوقف على النقل، وقوله: من قال في القرآن ـ أي في لفظه أو معناه برأيه أي بعقله المجرد فأصاب أي ولو صار مصيباً بحسب الاتفاق فقد أخطأ أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي.

قال ابن حجر: أي أخطأ طريقة الاستقامة بخوضه في كتاب الله تعالى بالتخمين والحدس لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان آثماً به مطلقا ولم يعتد بموافقته للصواب، لأنها ليست عن قصد ولا تحر، بخلاف من كملت فيه آلات للتفسير فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ، لأنه لا تعدي منه فكان مأجورا أجرين كما في رواية، أو عشرة أجور كما في أخرى إن أصاب، وأجر إن أخطأ كالمجتهد، لأنه بذل وسعه في طلب الحق واضطره الدليل إلى ما رآه فلم يكن منه تقصير بوجه

قاعدة بلاغبة


زيادة المبنى.. زيادة في المعنى

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق.
فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً.

هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.
«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.
استُحب لنا في كل جمعة أن نقرأ سورة الكهف، لما رواه أبوسعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (رواه الحاكم)، كما أنه جاء في الصحيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال» (رواه مسلم)، وقد أورد البخاري في فضائل هذه السورة حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين ــ حبلين - فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك، فقال: «تلك السكينة تنزلت بالقرآن».

تدبر القرآن
هذه الأحاديث وغيرها، تدفعنا إلى مزيد من العناية بهذه السورة المباركة، سواء من خلال الحفظ والتلاوة، أو التدبر والتفكر، هذا ما جعلنا نقف وقفة بلاغية مع بعض آياتها المباركة، نحاول من خلالها الوقوف على بعض أسرار البيان، التي من شأنها أن تقودنا إلى مزيد من التدبر للقرآن.
قصَّ الله عزَّ وجل علينا في هذه السورة خبر موسى عليه الصلاة والسلام والخضر، وما كان من اتباع موسى له بغرض التعلم مما علمه الله عزَّ وجل، ولكن موسى لم يطق الصبر على ما يراه من أفعال الخضر، ونقض العهد بعدم السؤال عن الأمور حتى يُـحدِث له الخضر منها ذكراً، وصبر عليه الخضر مراراً، ولكن سؤال موسى تكرر مراراً، فكانت لحظة الفراق التي سجلها لنا القرآن، قال تعالى حكاية عن الخضر: «قال هذا فراق بيني وبينك سأنبك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً» (الكهف: 78)، فأخبره عن سرِّ خرق السفينة، وقتل الغلام وهدم الجدار وإعادة بنائه، ثم قال في نهاية البيان: «.. وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطِع عليه صبراً» (الكهف: 82). والمتأمل للآيتين يلاحظ أن كلمة (تستطع) في الآية الأولى تزيد على كلمة (تسطع) في الآية الثانية، بحرف التاء رغم أن المعنى واحد، فما السرُّ في هذه الزيادة؟!

قاعدة بلاغية
للإجابة على هذا السؤال لا بد من تسليط الضوء على قاعدة بلاغية، مفادها أن زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى.
فلو قال أحدهم: أَغلَقَ الباب، وقال الآخر: غلـَّق الباب، بالتشديد فالمعنى في الجملتين واحد مع زيادة معنى شدة الإحكام في الثانية، لذلك قال الله عزَّ وجل في قصة يوسف: «وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلـَّقت الأبواب» (يوسف23)، ولم يقل أغلقت بالتخفيف؛ لأن المراد هو الإخبار عن شدة الإحكام. فإذا تقرر هذا علمنا الفرق بين آيتي الكهف، ففي الأولى جاءت التاء لزيادة المعنى، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن على علم بسبب خرق السفينة وقتِل الغلام وهدم الجدار وإعادة بنائه، فكانت الزيادة لإشارة إلى ذلك الإشكال، فلما زال ذلك ببيان الأسباب الدافعة لتلك الأمور، جاءت الكلمة بحذف حرف التاء بياناً لزوال الإشكال عند موسى عليه الصلاة والسلام، وأن الأمر صار سهلاً واضحاً والله أعلم، وفي هذا المعنى قال الألوسي رحمه الله: «وقيل: إنما خُص بالتخفيف – يعني كلمة تسطع- للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السلام ما لقيه ببيان سببه»، وقد تكرر هذا المثال في السورة نفسها عند الحديث عن يأجوج ومأجوج وهدمهم للجدار الذي بناه ذو القرنين، قال تعالى: «فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً»، ومعلوم أن صعود الجدار أسهل من خرقه فحذف التاء في «اسطاعوا» دلالة على ذلك، وزاد التاء في عند الحديث عن نقب الجدار دلالة على صعوبة ذلك.

الجار والمجرور
ويمكننا أن نضرب مثالاً آخر لهذه القاعدة في السورة نفسها، وذلك في قوله تعالى: «ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً»، وقال بعدها: «ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً» فزاد في الثانية كلمتي «لك» من الجار والمجرور.والسبب في ذلك أن الآية الأولى كانت بعد خرق الخضر عليه السلام للسفينة فأنكر عليه موسى عليه السلام صنيعه فذكَّره الخضر بالوعد الذي قطعه على نفسه، أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، فعاتبه بقوله: «ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً»، فوعده موسى أن لا يعود لذلك وطلب منه أن لا يؤاخذه بما نسي، فانطلقا حتى إذا لقيا الغلام فقتله الخضر، ونسي موسى عليه السلام وعده بعدم السؤال حتى يأتي البيان من الخضر عليه السلام، فسأله عن سبب ذلك، فقال له الخضر: «ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً» بزيادة اسم الإشارة وضمير المخاطب، وذلك فيه زيادة توكيد وإنكار بعد تكرار السؤال من موسى عليه السلام.
وهذه الظاهرة اللغوية لا تقتصر على سورة الكهف، بل يمكننا ملاحظتها في بعض سور القرآن الكريم، والله أعلم.

.