لُغَـةُ الشَّرَف

الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَهِيَ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ السيِّئَات، وَدُخُوْلِ الجَنَّات! ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
عِبَادَ الله: إِنَّهَا شِعَارُ الدِّيْنِ، وَهَوِيَّةُ المُسْلِمِيْن، وَهِيَ وِعَاءُ القُرْآنِ، والطَّرِيْقُ إِلَى مُرَادِ الرَّحْمَنِ: إِنَّهَا اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ!  يَقُوْلُ شَيْخُ الإِسْلَام: (اللِّسَانُ العَرَبِيّ: شِعَارُ الإِسْلَامِ وَأَهْلِه(1)؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ الْعَرَبِيَّ، وَجَعَلَ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ خَيْرَ الْأُمَمِ؛ فَصَارَ حِفْظُ شِعَارِهِمْ؛ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْإِسْلَامِ!)(2).  
واللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ: هِيَ لِسَانُ القُرْآن؛ فَلَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ إِلَّا بِوَاسِطَتِهَا! ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾.
قالَ السِّعْدِي: (تَأَمَّلْ كَيْفَ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الفَضَائِلُ الفَاخِرَةُ في هَذَا الكِتَابِ الكَرِيْمِ: فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الكُتُبِ، عَلَى أَفْضَلِ الخَلْقِ، بِأَفْضَلِ الأَلْسِنَةِ وَأَفْصَحِهَا وَأَوْسَعِهَا، وَهُوَ: اللِّسَانُ العَرَبِيُّ المُبِيْن)(3).
واللُّغَةُ مِنَ الدِّيْن؛ فَإِنَّ فَهْمَ الكِتَابِ والسُنَّةِ؛ لا يَكُوْنُ إِلَّا بِفَهْمِ العَرَبِيَّةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب!(4) قال الشَّاطِبِيُّ: (الشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ؛ فَلَا يَفْهَمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ؛ إِلَّا مَنْ فَهِمَ الْعَرَبِيَّةِ!)(5).
والعَرَبِيَّةُ أَعْظَمُ اللُّغَاتِ، وَأَغْنَاهَا بِالمُفْرَدَاتِ! فَإِنَّ لِسَانَ العَرَبِ: أَوْسَعُ الأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُ أَلْفَاظًا!(6)
قالَ ابْنُ كَثِيْرٍ -في وَصْفِهَا-: (أَفْصَحُ اللُّغَاتِ، وَأَحْلَاهَا، وأَعْلَاهَا، وَأَبْيَنُهَا، وأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ)(7). وقالَ ابْنُ القَيِّم: (فَتَأَمَّلْ الْمُطَابَقَةَ الْعَجِيبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ تُطْلِعْكَ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَأَنَّ لَهَا شَأْنًا لَيْسَ لِسَائِرِ اللُّغَاتِ)(8).
واللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ؛ تَزِيْدُ في العَقْلِ! قال U: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. قال عُمَرُ بنُ الخَطَّاب t: (تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ: فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ!)(9). يَقُوْلُ ابْنُ تَيْمِيَّة: (وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِيَادَ اللُّغَةِ: يُؤَثِّرُ في العَقْلِ والخُلُقِ والدِّيْن؛ تَأْثِيرًا قَوِيًّا بَيِّنًا، ويَؤُثِّرُ في مُشَابَهَةِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْن، وَمُشَابَهَتُهُمْ تَزِيْدُ العَقْلَ والدِّيْنَ والخُلُق)(10).
وأَعْدَاءُ العَرَبِيَّةِ: لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ حَرْبِهَا وَاقْتِلَاعِهَا مِنْ أَلْسِنَةِ المُسْلِمِيْن؛ حَتَّى يَقْطَعُوا صِلَتَهُمْ بِدِيْنِهِمْ، وَيَخْسَرُوا هَوِيَّتَهُمْ؛ لِيَتَسَوَّلُوا هَوِيَّةَ غَيْرِهِمْ! يَقُوْلُ الرَّافِعِيُّ: (مَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذَلَّ، وَكانَ أَمْرُهُ في إِدْبَارٍ؛ وَلِهَذَا يَفْرِضُ الأَجْنَبِيُّ المُسْتَعْمِرُ لُغَتَهُ على الأُمَّةِ المُسْتَعْمَرَة، وَيُشْعِرُهُمْ عَظَمَتَهُ فِيْهَا!)(11).
وَكَثِيْرٌ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ: نَشَأُوْا على لُغَةِ الأَعْجَمِيْن؛ وَهَجَرُوْا لُغَتَهُمُ الأَصْلِيَّة: حَتَّى فَقَدُوا الهَوِيَّةَ الشَّخْصِيَّة! فَإِنَّ العَرَبِيَّةَ لُغَةُ الوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِيْن، وَالاِنْتِمَاءِ لِلْدِّيْن! قالَ ابْنُ عُثَيْمِيْن: (الَّذِي يُعَلِّمُ صَبِيَّهُ اللُّغَةَ الإِنْجِلِيْزِيَّةَ -لِيَسْتَبْدِلَ بِهَا اللُّغَةَ العَرَبِيَّة-؛ سَوْفَ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلى اسْتِهْجَانِ مَنْ يَنْطِقُوْنَ بِغَيْرِهَا! فَتَعَلُّمُ اللُّغَةِ وَسِيْلَةٌ طَيِّبَة: إِذَا كَانَتْ لِأَهْدَافٍ طَيِّبَةٍ، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَجِبُ اجْتِنَابُهُ: أَنْ تُتَّخَذَ بَدِيْلاً عَنْ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ!)(12).

والعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الشَّرَفِ وَالعِزَّةِ، لا تَقْبَلُ الإِهَانَةَ والذِّلَّةَ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الكِتَابِ العَزِيْز. وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِهَانَةِ العَرَبِيَّةِ: التَّخَاطُبُ مَعَ الأَعْجَمِيِّ -الَّذِي جَاءَ إلى بِلَادِنَا-؛ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُكَسَّرَةٍ مُشَوَّهَةٍ؛ حَتَّى يَفْهَمَهَا! وَلِهَذَا قِيْلَ -في وَصْفِ هَذِهِ الظَّاهِرَة-: (يَأْتِيْنَا هَؤُلَاءِ القَوْم لا يَعْلَمُوْنَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّة، ثُمَّ نَتَعَجَّمُ نَحْنُ، قَبْلَ أَنْ يَتَعَرَّبُوا هُمْ!)(13).  
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ الله: الاِعْتِزَازُ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لا يُنافِي تَعَلُّمَ اللُّغَاتِ الأُخْرَى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى حِسَابِ لُغَتِنَا، واحْتِقَارِهَا وَهَجْرِهَا، وَإِنَّمَا نَتَعَلَّمُ لُغَةَ غَيْرِنَا بِنِيَّةِ المُسْتَفِيْد، لَا بِنَفْسِيَّةِ العَبِيْد! فَاعْتَزُّوْا بِـ(لُغَةِ القُرْآنِ)، الَّتِي اخْتَارَهَا الرَّحْمَن، فَإِنَّ شَرَفَ العَرَبِيَّة؛ عَجَزَتْ عَنْهُ لُغَاتُ البَشَرِيَّة!
قال ﷻ:﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾.
قال القُرْطُبِيُّ: (يَعْنِي الْقُرْآنَ شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ إِذْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ؛ فَاحْتَاجَ أَهْلُ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِلَى لِسَانِهِمْ! فَصَارُوا عِيَالًا عَلَيْهِمْ؛ فَشُرِّفُوا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ اللُّغَاتِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا!)(14). وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْنَ: (﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾: الْقَوْمُ: هُمُ الْعَرَبُ، فَالْقُرْآنُ لَهُمْ شَرَفٌ إِذْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ(15)، وَلَوْلَاه مَا كَانَ لِلْعَرَبِ مَنْ يَشْعُرُ بِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ!)(16).
وَسَتَبْقَىَ لُغَتُنَا العَرَبِيَّةُ: خَالِدَةً شَامِخَةً، مَحْفُوْظَةً بِحِفْظِ اللهِ لِكِتَابِهِ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
* * * *
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
* * * *
الحواشي

(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/519).
(2) مجموع الفتاوى (23/255).
(3) تفسير السعدي (597). باختصار
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية (1/527).
(5) الموافقات (5/53).
(6) الرسالة، الشافعي (42).
(7) تفسير ابن كثير (4/313). باختصار
(8) مدارج السالكين (3/13). باختصار
(9) شعب الإيمان، البيهقي (1556).
(10) اقتضاء الصراط المستقيم (1/527). باختصار
(11) من وحي القلم (3/27). بتصرف
(12) الشرح الممتع (12/43-44، 263) (15/344)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (26/327). بتصرف
(13) اللقاء الشهري، ابن عثيمين (3/19).
(14) أحكام القرآن (16/93). بتصرف
(15) تفسير البغوي (7/215).
(16) التحرير والتنوير، ابن عاشور (25/221).

.