وهل كل عالم روى أو كتب جميع علمه؟
كلا، ويدل على هذا أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت)، ومع هذا نجد آيات كثيرة في كتاب الله لم ينقل فيها رواية عن ابن مسعود، وقال مجاهد: (سألت ابن عباس عن تفسير القرآن آية آية من فاتحته إلى خاتمته)، ومع هذا نجد آيات كثيرة ليس فيها أي رواية في تفسيرها عن ابن عباس ولا عن تلميذه مجاهد، فالعلم بحر واسع، وليس كل العلم مكتوب، فلو هيئ أن سأل بعض التابعين أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا أو ابن مسعود أو أبي بن كعب رضي الله عنهم عن تفسير جميع آيات القرآن لوجد عندهم علما واسعا، وفي صحيح البخاري ومسلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن آية، فما أستطيع هيبة له، ثم لما حج سأله فأجابه، ولو لم يسأله لما علمنا بجوابه، فالعلم خزائن مفاتيحها السؤال.
▪️وهكذا نجد كثيرا من الأحاديث لم يحدث بها الرواة إلا حين يسألون، وإن كانوا في الأصل يحدثون بالأحاديث ابتداء نشرا للعلم، ولكن ليس كل صحابي حدث بجميع ما سمع من العلم، فمثلا أبو بكر الصديق صاحب رسول الله، هو أعلم الناس بحديثه، ولم يرو عنه إلا القليل لتقدم وفاته رضي الله عنه.
▪️وهكذا لا نجد لفقهاء التابعين كلاما في جميع المسائل الفقهية، مع ضرورة أن لهم علما فيها، فليس كل عالم تكلم بجميع علمه، ولو تكلم فليس كل علمه منقول إلينا، فمثلا سيد التابعين، وأفقه أهل المدينة سعيد بن المسيب رحمه الله نجد أن المحفوظ من أقواله وفتاواه في الفقه أقل من المحفوظ عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، الذين دون طلابهم كثيرا من أقوالهم وفتاواهم، وتجد تفصيل ذلك في كتابي المنشور في الإنترنت
▪️روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: (لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم)، قال القسطلاني في شرح هذا الأثر: "يفهم منه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة". إرشاد الساري ج١ص ٢٠٤، وينظر: تفسير الرازي ج٩ص٤٩٠، وتفسير ابن عاشور ج١ ص٣٠.
▪️وما أحسن ما قاله ابن الحاج في المدخل ج١ ص٧٥: "عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد له أن يأخذ منه فوائد جمة خصه الله بها، وضمها إليه؛ لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى يوم القيامة".
▪️ وأختم مقالي هذا بقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه حلية طالب العلم (ص: 174): "احذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر! فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر: كم ترك الأول للآخر!".