الاقتصاد في العبادة من السنة النبوية

الاقتصاد في العبادة من السنة النبوية

 

 

الهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: علماً واعتقاداً وقولاً وعملاً، هو السنة التي يجب إتباعها ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة.

 

لم يتفرد نبي الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم بأنه الكمال الإنساني المطلق من جميع نواحيه فحسب، بل هو يُمثل النجاح المعجز في تربية النماذج الإنسانية الكاملة، فمن مثل محمد صلى الله عليه وسلم..؟ كان صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة يُقتدى به؛ لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 

لا بد أن يكون ذا شخصية بارزة جذابة، تتسم بالتكامل والاتزان في جميع الجوانب؛ ليكون قدوة يقتدى بها، وأسوة يتأسى بها، لا أن يبرز في جانب ويغمض في آخر, أو يُغلو هنا ويفرِّط هناك. والكمال لم يكن لشخصه الكريم فقط؛ بل لرسالته أيضاً. فمن الحكمة إذاً أن يتصف من له مثل هذه الرسالة بالشمولية والاعتدال والتوازن في كل الميادين. قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ).[1]

ولا يخفى أن التمسك بالسنة يُنمي لدى المسلم الإرادة والتمنع على الأهواء والشهوات والمغريات، كما أنه إلى جانب ذلك يُضفي على السلوك الاجتماعي طابع التوحيد والانسجام، وهذا مهم جداً لتوحيد المشاعر والمفاهيم. وانطلاقاً من هذا لزاماً على الأمّ المسلمة أن تلقن طفلها ما يمكن تلقينه من السنن والآداب الشرعية المتعلقة بالسلوك الفردي وهي كثيرة [2]

 

والمهتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد سلوكه الاقتصادي عليه السلام في الأمور كلها ومنها: الاقتصاد في العبادة:

إن الإيمان والتقوى والصلاح والاستقامة، تُوجب علينا أن نوازن (https://www.alukah.net/sharia/0/28455) بين ديننا ودنيانا، وأن نتعبد الله تعالى بمراعاة سننه الكونية، وأن لا نهمل ديننا على حساب دنيانا، ونتبع الماديين. ولا نغلو في ممارسة العبادات، فنكون كالزاهدين، فالزهد في الدنيا ليس بالابتعاد عنها، إنما بالابتعاد عن ملذاتها الدنيئة، وشهواتها الوضيعة، وماعدا ذلك كله مباح للإنسان في إطار التوازن الشرعي بين الدين والدنيا، والجسد والروح. وهذا ما نجده في سلوك نبي الأمّة، ومعلّم البشرية، وهادي الناس أجمعين. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي (https://www.alukah.net/sharia/0/92995) فيه كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مُضيّع له، فالغالي فيه مضيع له؛ هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد [3]

 

الاقتصاد في استقبال ماء الطهور:

الماء سر الوجود، وكنز الحياة الثمين، وبه حياة كل نام، والماء نعمة عظيمة إذا فُقد اسودّ وجه الأرض، وعُدمت الحياة، ومن هنا لا يدرك كثير من الناس هذه النعمة إلا بعد فقدها لا سمح الله. ونبي القرآن المعجز للبشرية جمعاء، بإخباره عن الماضي، والحاضر، والمستقبل، كان يأمر أصحابه بالحفاظ على الماء، والاقتصاد في استهلاكها، وفقاً لرؤية مستقبلية لمشكلة المياه التي يُعاني منها العالم بأسره، بدءً من مشكلات الجفاف والتصحر في بعض البلدان، مروراً بزيادة الاستهلاك نتيجة زيادة عدد السكان، وصولاً إلى الصراع على المصادر المائية بين الدول.

 

والمربّي الفاضل ينشئ أبنائه على إتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في استهلاك الماء حتى في ماء الوضوء والطهارة التي هي شطر الإيمان. كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ.[4]

 

كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه وربما صلى الصلوات بوضوء واحد، وكان يتوضأ بالمُدّتارة - والمُدُّ نصف صاعٍ، والصّاعُ خمسةُ أرطالٍ وثُلْث - وبثلثيه تارة، وبأ زيد منه تارة وذلك نحوأربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث. وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أيسر الناس صباً لماء الوضوء، وكانيحذر أمته من الإسراف فيه. وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور[5]

 

و أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ. قَالَ: (أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ، قَالَ: نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)[6]

 

وللأسف الشديد نجد في الوقت الراهن من يسرف (https://www.alukah.net/sharia/0/29431) في ماء الوضوء، ويترك صنبور الماء مفتوح الدقائق المعدودات، وربما تحدث مع الآخرين لدقائق وهو يتوضأ. فبدلأن يأخذ حسنات الوضوء، يأخذ سيئات الإسراف.

 

الصلاة:

كان صلى الله عليه وسلم يجد في العبادة جلّى راحته، وميدان نعيمه، وكانت قرة عينه في الصلاة، وكان صلى الله عليه وسلم يُصلي حتى تتفطر قدماه. ومع ذلك كان يأمر أصحابه بالقيام بالعبادة النافلة على قدر المستطاع رأفة منه ورحمة بهم. وقد بيّن ذلك عندما دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ .

قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ [7] أي: هذا باب في بيان كراهة التشديد وهو تحمل المشقة الزائدة في العبادة وذلك لمخافة الفتور والإملال ولئلا ينقطع المرء عنها فيكون كأنه رجع فيما بذله من نفسه وتطوع به[8]

 

كان أخف الناس صلاة على الناس يعني المقتدين به، وأطول الناس صلاة لنفسه ما لم يعرض ما يقتضي التحقيق كما فعل في قصة بكاء الصبي ونحوه [9]

 

قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَقُومُ في الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيَّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ [10]

 

وقد كان صلى الله عليه وسلم يُدعو أصحابه دائماً إلى القيام بسائر أعمالهم على قدر الطاقة الجسدية، والاستطاعة المادية؛ وذلك امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].

 

وقوله: ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ أي: لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم [11]

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّتْ).

[12] وقال رسول صلى الله عليه وسلم: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا). [13] (سددوا ومعناه اقصدوا السداد أي الصواب، وقال الكرماني: التسديد من السداد وهو القصد من القول والعمل، واختيار للصواب منهما قوله: وقاربوا أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال، فتتركوا العمل فتفرطوا وقال الكرماني[14]

(-أي لا تبلغوا الغاية بل تقربوا منها. وقوله: واغدوا من الغدو وهو السير من أول النهار، والرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، قوله وشيء من الدلجة أي استعينوا ببعض شيء من الدُّلجة بضم الدال وإسكان اللام... السير آخر الليل وقوله "والقصد القصد" أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل[15]

 

الصيام:

ولا شك أن الصوم من أفضل العبادات تقرباً لله تعالى، لما للصوم جزاء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

 

قال رسول صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِى بِه) [16]

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق حباً للصيام، وكان يصوم الأيام الطوال؛ تقرباً لله تعالى وحباً بالصيام.

 

وفضله العظيم، ومع ذلك أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه قيام اللّيل، وصيام النهار، واجتناب النساء، كما أنكر على مجموعة من أصحابه التشدد في العبادة.

 

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) [17]

نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: (إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّى وَيَسْقِينِ). [18] وهذا منه صلى الله عليه وسلم إرشاد عملي وتأديب نبوي للصحابة الكرام رضي الله عنهم ليوقفهم على ضعفهم، وأن الوصال يشقعليهم، فيبتعدوا عنه من تلقاء أنفسهم.

 

فلا يُكلِّف الإنسان نفسه من الخُيور والطَّاعات إلَّا ما يُطيقُ الَّمداومة عليه ولا يُؤدِّي إلى الملالة والسَّآمة، ومن تكلّف من العبادة ما لا يُطيقه، فقد تسبّب إلى تبغيض عبادة الله، ومن قصَّر عمّا يُطيقه، فقد ضيَّع حظه ممّا ندبه الله إليه وحثّه عليه [19]

 

ويجب على الآباء تعويد أبنائهم على الصيام منذ الصغر، حتى لا يشق عليهم في سن التكليف.

 

[1] أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني ( ت 275 هـ/ 889م )، سنن أبي داود، تحقيق يوسف الحاج أحمد، دمشق، مكتبة ابن حجر، ط1، 1422هـ/2004م، كتاب الطهارة (1/390)، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (4)، حديث (8)، 24.

[2] بكار، عبد الكريم، هكذا تكون الأمهات، إعداد عصام عبد اللطيف عبد المولى، سلسلة البناء والترشيد، 19، حمص، دار الإرشاد، 1424ه/ 2003م، 25.

[3] مجموعة من العلماء، بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، المملكة العربية السعودية، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط2، 1425هـ/2005م، 55. [4] مسلم، الجامع الصحيح، كتاب الحيض (3)، بابالقدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد (10)، حديث (325)، 1، 257.

[5] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، 184.

[6] ابن حنبل، المسند، حديث (7065)، 2، 212.

[7] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب التهجد، باب ما يكره من التَّشديد في العبادة (18/ 495)، حديث (1150)،2، 180.

[8] العيني، بدر الدين الحنفي (ت855 هـ/ 1451 م)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، كتاب التهجد (19)، باب ما يكره من التشديد في العبادة ( 18)، 11، 344.

[9] السيوطي، الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911ه/ 5 148)، الشمائل الشريفة، تحقيق حسن بن عبيد باحبيشي، د.م، دار طائر العلم للنشر والتوزيع، د.ت، 43.

[10] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (65/216)، حديث (707)، 2، 36.

[11] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ،1،737.

[12] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الصيام (30/9)، باب (52/52)، حديث (1970)، 3، 194.

[13] المرجع السابق، كتاب الرقاق (81/55)، باب القصد والمداومة على العمل (18/18)، حديث (6463)، 9، 239.

[14] الكرماني، محمد بن يوسف البغدادي، ولد في جمادى الآخرة سنة (717ه)، وأخذ عن أبيه بهاء الدين وجماعة ببلده ثم ارتحل إلى شيراز، فأخذ عن القاضي عضد الدين، ولازمه اثنتي عشرة سنة حتى قرأ عليه تصانيفه ثم حج واستوطن بغداد، ودخل إلى الشام ومصر ولما شرع في شرح البخاري فسمعه بالجامع الأزهر، وسمى شرحه للبخاري الكوكب الدراري، وهو في مجلدين ضخمين. وهو شرح مفيد، وله شرح مختصر ابن الحاجب سماه السبعة السيارة لأنه جمع فيه سبعة شروح، فجاء شرحاً حافلاً مع ما فيه من التكرار وصنف في العربية والمنطق، وتصدى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة وكان مقبلاً على شأنه لا يتردد إلى أبناء الدنيا قانعاً باليسير ملازماً للعلم مع التواضع والبر بأهل العلم وتوفي راجعاً من الحج في المحرم سنة (786). يُنظر، الدر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، 2، 125.

[15] العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (18)، حديث (3646)، 33، 236.

[16] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الصوم ( 30/ 9)، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ( 9/9 )، حديث (1904 )، 3، 173.

[17] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب النكاح (37)، باب الترغيب بالزواج ( 1)، حديث (5063).

[18] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الصيام (30/ 9)، باب الوصال (48/48)، حديث (1964)، 3، 192.

[19] العز بن السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فصل في الاقتصاد في المصالح والخيور، 2، 385.

.