روى البخاري (1131) ومسلم (1159) عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ) .
ومعنى الحديث : أن أفضل صلاة الليل صلاة نبي الله داود عليه السلام ؛ حيث كان - أولا - ينام نصف الليل ، فمَن أراد أن يطبق ذلك اليوم فليحسب من بعد صلاة العشاء إلى الفجر ، فينام نصف ذلك الوقت .
قال الشيخ عبد المحسن العباد :
" ينام نصف الليل يعني: بعد صلاة العشاء ، فيحسب من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فنصفه يكون نوماً ، ثم بعد ذلك يكون ثلثه " انتهى .
"شرح سنن أبي داود" (13 /287) - ترقيم الشاملة .
ثم كان عليه السلام يقوم بعد ذلك للصلاة ، فيصلي ثلث الليل ، ثم ينام سدسه إلى الفجر .
والحكمة في ذلك : لئلا تصيب النفس السآمة ، وليقوم لصلاة الفجر وما يتلوها من أذكار الصباح نشيطا غير كسلان ، وليبدأ عمله اليومي كذلك ، فيستطيع أن يقوم بتأدية ما عليه من الحقوق تجاه أهله وولده والناس وتجاه عمله الذي يزاوله ، فلا يذهب إلى العمل والنوم يغالبه ، إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح .
قال الحافظ رحمه الله :
" قَالَ الْمُهَلَّب : كَانَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام يُجِمّ نَفْسه بِنَوْمٍ أَوَّل اللَّيْل ، ثُمَّ يَقُوم فِي الْوَقْت الَّذِي يُنَادِي اللَّه فِيهِ : هَلْ مِنْ سَائِل فَأُعْطِيَهُ سُؤْله , ثُمَّ يَسْتَدِرْك بِالنَّوْمِ مَا يَسْتَرِيح بِهِ مِنْ نَصَب الْقِيَام فِي بَقِيَّة اللَّيْل . وَإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَة أَحَبّ مِنْ أَجْل الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السَّآمَة , وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا " وَاَللَّه أَحَبَّ أَنْ يُدِيم فَضْله وَيُوَالِي إِحْسَانه , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَرْفَق لِأَنَّ النَّوْم بَعْد الْقِيَام يُرِيح الْبَدَن وَيُذْهِب ضَرَر السَّهَر وَدُبُول الْجِسْم بِخِلَافِ السَّهَر إِلَى الصَّبَاح ، وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَة أَيْضًا اِسْتِقْبَال صَلَاة الصُّبْح وَأَذْكَار النَّهَار بِنَشَاطٍ وَإِقْبَال , وَأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى عَدَم الرِّيَاء لِأَنَّ مَنْ نَامَ السُّدُس الْأَخِير أَصْبَحَ ظَاهِر اللَّوْن سَلِيم الْقُوَى فَهُوَ أَقْرَب إِلَى أَنْ يُخْفِي عَمَله الْمَاضِي عَلَى مَنْ يَرَاهُ , أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن دَقِيق الْعِيد " انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" وَهَذَا صَرِيح فِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَحَبّ إِلَى اللَّه لِأَجْلِ هَذَا الْوَصْف , وَهُوَ مَا يَتَخَلَّل الصِّيَام وَالْقِيَام مِنْ الرَّاحَة الَّتِي تجمّ بِهَا نَفْسه , وَيَسْتَعِين بِهَا عَلَى الْقِيَام بِالْحُقُوقِ " انتهى من "تهذيب سنن أبي داود" (1 /475) .
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
" التهجد في الليل من أفضل العبادات وهو أفضل الصلوات بعد الفرائض ، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار ولاسيما في الثلث الأخير منه ، وأفضل تجزئة لليل صلاة داود : كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك أحيانا بل الأغلب عليه ذلك ، وعلى هذا فنقول : أفضل صلاة الليل ما كان بعد النصف إلى أن يبقى سدس الليل " انتهى .
"فتاوى نور على الدرب" (161 /1) ترقيم الشاملة .
ثانيا :
روى البخاري (1145) ومسلم (758) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ ) .
وروى مسلم (1163) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ قَالَ : ( أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ) .
وروى الترمذي (3579) وصححه عن عَمْرُو بْن عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) وصححه الألباني
فهذا يدل على أن جوف الليل الآخر أفضل أوقات صلاة الليل والدعاء .والجمع بين هذه الأحاديث وحديث صلاة نبي الله داود : أن من صلى صلاة داود عليه السلام سيدرك الثلث الأخير ، أن الثلث الأخير هو عبارة عن السدسين : الخامس والسادس ، وأن أول هذا الثلث هو السدس الخامس .
فيحصل المقصود كله : إدراك التنزل الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، وذلك باستيقاظ السدس الخامس ، وهو نصف هذا الثلث الأخير ؛ ثم النوم بالقدر الذي يصبح به الإنسان نشيطا غير كسلان ، فيصلي الصبح بحضور الذهن والقلب ، ولا يفتر عن أذكار الصباح .
ثالثا :
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فإن قال قائل : لماذا لا تجعلون الأفضلَ ثُلُث الليلِ الآخرِ؛ لأنَّ ذلك وقت النُّزول الإلهي؟.
فالجواب : أنَّ الذي يقوم ثُلُث الليل بعد نصفه سوف يدرك النُّزول الإلهي؛ لأنه سيدرك النصف الأول مِن الثلث الأخير ، فيحصُل المقصودُ ، والنبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام هو الذي قال : ( أفضلُ الصَّلاة صلاة داود ) .
" انتهى من "الشرح الممتع" (4 /75-76) .
وقد روى البخاري (1133)، ومسلم (742) عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ : ( مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا ) تَعْنِى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
قال العيني رحمه الله :
" يعني ما أتى عليه السحر عندي إلا وهو نائم ، فعلى هذا كانت صلاته بالليل وفعله فيه إلى السحر ، ويقال : هذا النوم هو النوم الذي كان داود عليه الصلاة والسلام ينام ، وهو أنه كان ينام أول الليلة ، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله عز وجل : هل من سائل ؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في الليل ، وهذا هو النوم عند السحر على ما بوب له البخاري " .
انتهى من "عمدة القاري" (11 /284) .
وقال ابن الأثير رحمه الله :
" أي ما أتَى عليه السَّحَرُ إلا وهو نائم . تَعني بعد صلاة الليل " .
انتهى من "النهاية" (4 /530) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" وكان صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل فربما قام نصف الليل أو قبله ، فيصلي ؛ فإذا جاء السحر عاد إلى نومه ، وقد قال : ( أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) ، وقد قيل إن سبب الصفرة في الوجه سهر آخر الليل ، فإذا نام الإنسان قبل الفجر لم تظهر عليه صفرة في الوجه ولا أثر في السهر " انتهى من "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (ص 1224) .
فتبين بذلك أن غالب أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ، يوافق صلاة نبي الله داود عليه السلام .
ينبغي التنبه إلى أن الإنسان يحرص على صلاة الليل بالصورة التي تناسب حاله ، وبالقدر الذي يغلب على ظنه أنه يداوم عليه ، فإن الناس تختلف أحوالهم ، فمنهم من ينام مبكرا ليستيقظ مبكرا ، ومنهم من يكون عمله ووظيفته بالليل ، ومنهم من يعمل بالليل والنهار ، فليحرص كل مسلم على صلاة الليل ، بالقدر الذي يمكنه الوفاء به ، والثبات عليه ؛ حتى ولو لم يوافق ما تقدم من الحال الأفضل ، ثم ليكن حرصه على القيام لصلاة الفجر هو المقدم في كل الأحوال .
والله تعالى أعلم .